العالم الجديد يتشكّل من فنزويلا

 

علي بن مسعود المعشني

بعد انقضاء الحرب الأوروبية الثانية (العالمية) عام 1945، عاد الحلفاء المنتصرون (روسيا، أمريكا، بريطانيا، فرنسا) إلى جغرافياتهم الطبيعية وتخندقوا خلف مصالحهم وثوابتهم الحقيقية بعد أن تقاطعت مصالحهم، واقتضى مصيرهم الحتمي في لحظة تاريخية آنية مواجهتهم مجتمعين للتنمر والخطرالنازي الألماني.

 

*الحرب الباردة  

" اندلعت الحرب الكورية في الـ 25 من يونيو 1950م، عندما اندفع نحو 75 ألفا من جنود جيش الشعب الكوري الشمالي عبر الحدود مع كوريا الجنوبية والتي كانت تعرف بخط العرض 38، والذي كان يمثل الحدود بين جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية المدعومة من قبل الاتحاد السوفيتي إلى الشمال، وجمهورية كوريا الموالية للغرب في الجنوب.

وكان الزعيم الكوري كيم إيل سونغ أعلن قيام جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية في عام 1948م أي بعد 3 سنوات من زوال الاستعمار الياباني لشبه الجزيرة الكورية عند انتهاء الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان للحلفاء.

وكان الغزو الكوري الشمالي للجنوب أول عمل عسكري في حقبة الحرب الباردة.

تدخل الأمريكيون في الحرب في يوليو 1950م إلى جانب كوريا الجنوبية بينما وقفت الصين إلى جوار كوريا الشمالية. وكان المسؤولون الأمريكيون ينظرون إلى تلك الحرب على أنها حرب مع القوى الشيوعية العالمية.

وعقب كر وفر عبر خط العرض 38، دخل القتال مرحلة جمود، وتزايدت أعداد القتلى والجرحى دون أي نتيجة. في غضون ذلك كان المسؤولون الأمريكيون يحاولون جاهدين التوصل إلى هدنة مع الكوريين الشماليين، إذ كانوا يخشون أن البديل سيكون حربا أوسع نطاقا تشمل الاتحاد السوفييتي والصين أو حتى اندلاع حرب عالمية ثالثة.

وأخيرًا، وفي يوليو 1953م، وضعت الحرب الكورية أوزارها، ولكن ليس قبل أن تفتك بأرواح حوالي 5 ملايين شخص من مدنيين وعسكريين" (بحسب BBC).

عرف العالم مصطلح ومظاهر ما سُمّيت بالحرب الباردة بين حلفاء الأمس والذين انقسموا بعد الحرب الكورية إلى معسكرين، شرقي اشتراكي وغربي رأسمالي.

اتسمت الحرب الباردة بقواعد صارمة تحكم تصرفات القوى الكبرى تجاه بعضها وتجنبها الاحتراب والمواجهات العسكرية المباشرة، مع السماح بقواعد الصراع في أوجه سلمية أخرى كالاقتصاد والثقافة ودعم الحلفاء والأصدقاء وبما يضمن مصالح الكبار ويحقق المكاسب لهم.

انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م ثم انهماك روسيا الاتحادية في تقسيم إرثه السياسي والعسكري والاقتصادي ولملمة ما يعنيها ويعينها على الانطلاق مستقبلًا كقوة عظمى وفق استراتيجيات متوسطة وبعيدة مدروسة بعمق، كل ذلك أوجد فراغًا سياسيًا هائلًا في جغرافية الكتلة الشرقية وحلفاؤها حول العالم الأمر الذي دعا الغرب إلى استثمار واستغلال هذا الفراغ التاريخي للإجهاز على ما يمكن من إرث الاتحاد السوفييتي حول العالم وتمكين الرأسمالية المتوحشة وليبراليتها المزيفة.

كان الاتحاد اليوغسلافي هو النموذج المُقلق والمُغري للغرب في حلقات الشيوعية العالمية والأخطر على الغرب بجغرافيته الأوروبية حيث استفتح الغرب به ليحيله من كيان فيدرالي موحد إلى ركام مفتت من ستة دول (كرواتيا، البوسنة والهرسك، صربيا، الجبل الأسود، مقدونيا، سلوفينيا) وتزامن ذلك مع انهيار عهد تشاوشيسكو في رومانيا وجدار برلين بين الألمانيتين. ومن لم يناله الغرب بالخراب المادي والتفتيت فقد طاله بالاحتواء في الاتحاد الأوروبي و"الفردوس الموعود" للرأسمالية كبولندا والمجر وبلغاريا والتشييك وسلوفاكيا وأوكرانيا وعدد من جمهوريات البلطيق.

وحين استيقظ الدب الروسي من سباته القسري خرج للعالم بدولة بقوة عسكرية تفوق وحيوية سياسية تفوق الاتحاد السوفييتي وعقائد جديدة تجعل من مصالحه الحيوية حول العالم من مكنونات ومكونات أمنه القومي، ودشنت روسيا الاتحادية "البوتينية" هويتها الجديدة عبر منصة دمشق، حين رأى العالم أجمع جميع التفاصيل الحيوية لروسيا البوتينية في كافة مراحل الأزمة السورية الدبلوماسية منها والسياسية والعسكرية.  فقهت روسيا اليوم بأنّ مفهوم القوة المسلحة العارية لاتبني دولة عظمى بقدر ما تحميها وتردع الطامعين بها، فسوقت للعالم هويتها الجديدة والمتمثلة في اقتصاد السوق والديمقراطية الحزبية التعددية والحياة البرلمانية والمجتمع المدني وحرية التعبير والصحافة والإعلام الحر. فأسقطت كل ذرائع الغرب للحروب الباردة أو الساخنة معها، وبما أنّ الغرب لا يؤمن بالندية والتكافؤ في علاقاته بالآخر ممن هم خارج جغرافيته ولا يدينون بثوابته وموروثه فقد أصر الغرب على الظهور بمظهر العدو لروسيا البوتينية رغم ليبراليتها ورغم تسلحها بجميع أدوات ثقافة الغرب والتي يسوقها للعالم قسرًا، لأنّ الغرب يحارب التغيير وفق الإرادات الوطنية الحرة ويصر على أن يكون هو وحده الخصم والحكم في كل شاردة وواردة في العالم.

 التدخل الأمريكي السافر في فنزويلا اليوم يبرهن للعالم بأنّ الحرب الباردة في الوجدان الغربي لم تنته بزوال الخطر الشيوعي السوفييتي وتناغم روسيا البوتينية مع قيم الغرب الديمقراطية؛ بل تم استيداعها مؤقتًا وإعادة توظيفها لاحقًا بمسميات أخرى ولأهداف مستقبلية أخرى ولصناعة عدو قادم. فالغرب اليوم ومن خلال موقفه "المتوحش" من فنزويلا أظهر للعالم وبجلاء بأنّ هدفه الجديد هو خلق أنظمة وفق هواه ومن صنع يده وبالقوة القهرية متخطيًا سيادات الدول والقانون الدولي والشرعية الدولية وخيارات الشعوب وإراداتها الوطنية وحقها في صنع أنظمتها وقواعد حكمها وهوياتها السياسية والثقافية والفكرية الخاصة بها.

هنا كان لابد للعالم الحر أن يستفيق ويتحرك قبل فوات الأوان وقبل أن تٌصبح البلطجة السياسية قاعدة يستمرئها العالم المعاصر وبديلا للقانون الدولي وكما استمرأ قانون القوة الأمريكي لعقود خلت خوفًا وطمعًا. فوقوف عدد من دول العالم اليوم مع حق فنزويلا ليس كله حبًا في فنزويلا ولكنه جميعه تعبيرًا صادقًا ورفضًا صريحًا لسياسات البلطجة الأمريكية ورديفها الغربي. فمجرد تمرير نموذج فنزويلا والصمت تجاهه سيصبح العالم حقل تجارب للسادية السياسية الأمريكية والتي بلغت ذروتها في كل شيء وفاقت كل حدود التوحش والسعار. التفريط في فنزويلا اليوم يعني صك إقرار مجاني لأمريكا من العالم بحقها في استباحة الدول والشعوب وأنها القطب الأوحد ومن يقرر مصير العالم.

أخطر ما يواجه العالم الحر في أزمة فنزويلا ليس رفض أمريكا والغرب للتنوع والتعدد والثراء في العالم ولا في رفض حق تقرير المصير للشعوب ولا طمعًا ونهبًا للثروات الطبيعية للشعوب ومقدراتها فحسب بل في استخدام وتوظيف أدوات حروب الجيل الخامس بضراوة والمتمثلة في الحصارات الاقتصادية وقرصنة الأموال وتوظيف القرصنة الإلكترونية للإضرار بالخصم وهو ما تجسد في الحصار المالي لمدخرات إيران حول العالم رغم حكم محكمة العدل الدولية لصالح إيران ومهاجمة منظومة الكهرباء في فنزويلا بهدف تعطيل الدولة وتمهيدًا لفوضى خلاقة في جنح الظلام. موقف روسيا القوي من فنزويلا ورفع الضرر عنها في الهجوم الإلكتروني على منشآتها الكهربائية سريعًا والعمل على تحويل أموالها من النفط إلى موسكو ومساعدتها في نقل مخزون الذهب وبيعه في الأسواق العالمية لتوفير السيولة للحكومة الفنزويلية والالتفاف على القرصنة الأمريكية لأموال خصومها المحولة بالدولار حول العالم، يخلق ضرورة جديدة وقناعة راسخة للعالم الحر بأهميّة تشكيل اقتصاد مواز وبديل للاقتصاد العالمي التقليدي والذي تهيمن عليه أمريكا ودولارها بشكل كبير وهذا ما سنراه بجلاء في الأعوام القليلة القادمة. هذه الهلاوس السياسة والسعار الأمريكي الغربي في أزمة فنزويلا لا يعبر في حقيقته عن مظاهر قوة وسيطرة وكما كان عليه حالهم منذ سنوات خلت بقدر ما يُعبر عن قلق كبير لقوى الغرب وسباق محموم مع الزمن لتفادي أفولهم التدريجي الحتمي وفقد سيطرتهم على العالم واستباقًا لصعود قوى عملاقة كبرى منافسة لهم في العالم وتحمل قيمًا أكثر إغراءً وتناغمًا مع مقتضيات السياسة والإنسانية وقواعد الصراع معا.

قبل اللقاء: الدولة كشخصية اعتبارية شبيهة بالشخصية الطبيعية إلى حد كبير وفق تصنيف السياسة والقانون وعلم الاجتماع إلا أنّ الشخصية الاعتبارية تتمثل عوامل انهيارها وعناصر اندثارها في مؤشرات مراحل نموها وأطوارها وسلوكها وكذلك في مكوناتها "الجينية" في النشأة الأولى والتي تتشكل وتتعاظم لتصيغ جميعها وتقرر مصائر البلدان ومآلاتها الحتمية.

وبالشكر تدوم النعم.