ماذا يمكن أن نهدي للوطن؟

 

حميد بن مسلم السعيدي

 

العلاقة بين المواطن والدولة التي تتقد بالإيمان العميق الذي يترسّخ لدى الذات الواعية، هي الدافع نحو التغيير والإنجاز في حياة المواطن، بحيث يكون على مستوى عال من الوعي تجاه الوطن، ويملك الروح الوطنية التي تتجسد في أفعاله بعيداً عن المصالح الفردية.

تلك العلاقة التي نادى بها العديد من المنظرين في مجال المواطنة والتي ركزت على العلاقة القائمة على أهم أبعاد المواطنة الحقوق والواجبات والمشاركة والهُوية الوطنية والانتماء الوطني، وبالرغم أن هذا التأطير جاء من منتصف القرن الماضي عن المواطنة، إلا أنّ الواقع الذي نتعايشه في تلك العلاقة كان يركز على أهم جوانبها وهي الواجبات والانتماء الوطني، والتي ينبغي أن تكون في إطار المصلحة الوطنية بعيدًا عن الذاتية أو المصالح الشخصية، بما ينعكس إيجابيا على الدور الوطني الذي ينبغي أن يقوم به المواطن في خدمة الوطن. لكن في ظل التغيرات التي يمر بها الفرد في حياته متأثراً بالعديد من التغيرات التي يشهدها العالم، لم يعد فكره محصورا على تلك الأرض التي يعيش عليها وإنما أصبح مواطناً عالميا يتعايش في عالم يمر بمراحل من التغيير ويتميز بتعددية ثقافية متنوعة، وأصول بشرية من أجناس مختلفة، تلك كان لها الأثر على حياة الفرد ومدى مقدرته على التوافق بين الانتماء الوطني والتواجد ضمن إطار العالم، ولكن كل هذه المنظومة الفكرية للمواطنة ومدى تشكلها لدى الفرد، لا يمكن أن تؤطر كواقع يمارس في حياته إلا عندما يصل إلى مرحلة الإيمان الوطني والذي يُعد الرابط الأساسي الذي يربط بين الفرد والمكان الذي ينتمي إليها، حينها تصبح الواجبات جزء من حياة الفرد يقوم بها دون التفكير في العائد من ذلك سواء كان على شكل حقوق أساسية ينبغي أن توفرها الدولة للمواطن، أو على شكل عوائد مادية نظير القيام بتلك الواجبات، إذن المواطن يصل إلى مرحلة يصبح العمل الوطني جزءا من حياته يقوم به كسلوك يومي لا يتأثر بالمتغيرات المادية التي أصبحت جزء من الحياة في العصر الحديث، خاصة أنها لها دور كبير في تغيير اتجاهات الفرد تجاه الوطن وتجاه الواجبات التي ينبغي أن يقوم بها.

الأمر الذي غير نظرتي تجاه المواطنة بصورة أكثر وضوحا في تبيان تلك العلاقة بين الفرد والأرض التي ينتمي إليها هو لقائي بالمواطن الكويتي خالد الفزيع بمنطقة السالمية بالكويت حيث جسد ذلك اللقاء مرحلة مهمة في حياة المواطن وتلك العلاقة بينه وبين الأرض، تلك الأرض التي وهبتنا الحياة ووهبنا لها أرواحنا، حيث تتجلى كل معاني الإيمان الروحاني العميق بحب الوطن، وهنا تتجسد كل معاني المواطنة لدى الفرد عندما يهب روحه وروح أبنائه فداء للوطن، فكانت الكويت في مرحلة الصراع والغزو العراقي في التسعينيات من القرن الماضي، مما دفع الكويتيين للدفاع عن وطنهم، فكانت الشهادة ثمن غالي من أجلها، ولكن الذكرى المؤلمة بقت في نفوس الكويتيين تحكي قصصاً من الألم والكفاح من أجل البقاء في تلك الفترة المؤلمة من تأريخهم.

لكن لدى خالد الفزيع القصة مختلفة تماما، فبعد أن كان ابنه ضمن قائمة الشهداء أراد أن يبقى ذلك الاسم في زوايا الذكريات، وأراد لأطفال الكويت أن يعرفوا جيدا ذلك التاريخ، وتاريخ الكويت القديم وتفاصيل الحياة الكويتية، فيقول: كانت مرحلة التغيير لدى عندما سألتني أحدى الفتيات الصغار عن هذا العلم يتبع أي دولة؟ فالأداة لم تكن بالأساس علم وإنما "المشبه" التي تستخدم لتحريك الهواء في فصل الصف، وهي تستخدم لدى كافة مجتمعات الخليج. ومن هذا الموقف كان الأثر في اتخاذ قرار بإنشاء مشروع وطني يتطرق إلى الحياة الاجتماعية للكويت، وكيف كانت الحياة قديما، وما أهم الأدوات التي استخدمت في تلك الفترات القديمة؟ حتى أتمكن من بناء معرفي لأبنائنا فقررت إقامة متحف خاص مستغلاً جزءا من مساحتي منزلي؛ هنا كانت البداية، ولكن ماذا يعني ذلك المتحف؟

الإنجاز بدأ بنقطة البداية وبلقاء مع أطفال المستقبل، ولكن العمل أخذ حيزا من الوقت والجهد والمال في سبيل جمع الأدلة والمواد التاريخية التي ترتبط بالتاريخ وبالجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية والتعليمية والتي تمس الحياة الكويتية بصورة خاصة، فجسدها في زاوية رسم فيها مسار ذلك التاريخ متتبع خطواته حتى وصل إلى تصميم الحياة الأسرية والتي كانت الجزء الأهم في الحياة الخاصة، وكيف يستخدم الإنسان الأدوات في سبيل توفير متطلبات حياته.

رغم بساطة الفكرة ولكن المشروع أخذ أبعاداً تاريخيا واجتماعية وسياسية جسد الفزيع في متحفه الحياة الكويتية وبث من خلال مرحلة مهمة من تاريخهم، وأصبح خالد كل يوم يستقل أطفال الكويت ويبدأ معهم رحلة التاريخ يحكي لهم كل مراحله، ويصف لهم كيفية استخدام الأدوات قديما، حتى يصل إلى قصة العزو العراقي للكويت ويتوقف عند أحد الزوايا التي تضم قائمة الشهداء، حينها نتساءل ماذا يمكن أن نهدي للوطن أغلى من أرواحنا؟

العمل الوطني لا يمكن أن يكون خالصاً إذا فكر المواطن بعلاقة بين العائد والواجب الذي ينبغي أن يقوم به، بل ينبغي أن يكون قائما على العطاء دون حدود، العطاء دون التفكير في العائد والحقوق، العطاء لأجل تحقيق الرسالة الوطنية التي ينبغي من خلالها تحقيق التقدم والنماء للوطن، العطاء الذي يتميز بالإخلاص والأمانة، العطاء الذي يقوم على الرقابة الذاتية تجاه الأفعال التي قد نخطئ فيها، أو يخطئ المسؤولون في القيام بها، حينها علينا أن نقول لا لأنفسنا أولاً، ونقول لا لكل مسؤول يحاول أن يستغل منصبه في تحقيق المصالح الشخصية ومخالفة الأنظمة والقوانين، نقول لا بل ونرفض كل ما يقدم لنا من عوائد مادية إذا كانت من أجل مخالفتنا للأنظمة والقوانين، فنحن بحاجة إلى نقدم هدية للوطن هي إخلاصنا وأمانتا للعمل من أجله.