عبيدلي العبيدلي
حل المطرب المصري الشاب أحمد عفت يحيى ضيفاً على "الصالة الثقافية"، احتفاء بذكرى الفنان الراحل عبد الحليم حافظ. كانت تلك إحدى فعاليات مهرجان ربيع الثقافة الرابع عشر. وفي الطريق كنت أحذر النفس من إجراء مقارنة بين أداء الشاب أحمد عفت، وأداء "حليمو"، ففي ذلك إجحاف بحق الفنانين على حد سواء. لكن ما أن صدح أحمد بأغنية "جبار"، حتى وجدت نفسي، وبلا قرار مسبق، أنضم إلى الجمهور في مصاحبة المطرب الشاب الذي وفق، وبالرشاقة وخفة الدم المصريتين، في كسر الحواجز بينه وبين الجمهور الذي رافق الفرقة الموسيقية وهو يغني واقفاً، لكن في هرمونية غير مفتعلة أدت لوحة جميلة، عبرت بصدق عن ملحمة فنية أسمها عبد الحليم حافظ.
وفقت في طريق الخروج في نهاية الحفل، بلقاء أحد زملاء مقاعد الدراسة المشهود له بالصوت الجميل، والخلفية الفنية الراسخة. ولو قدر له أن يختار تخصصه الجامعي، لكان أول المتقدمين إلى أحد المعاهد الموسيقية الراقية، ولأصبح اليوم من نستمتع بأدائه الجميل. وددت أن أقيس مدى صحة حكمي على حسن أداء المطرب أحمد عفت، فكان جواب الصديق مشجعًا، لكنه أغرقني في مجموعة من المواصفات الفنية التي تثبت حسن أداء عفت، لم تكن ثقافتي الموسيقية المتواضعة قادرة على هضمها. إنما المحصلة أنني لم أخطئ في الإعجاب بأداء الفنان عفت.
هذا يمنحني الثقة في أن أخرج بالقول إن أحمد عفت نجح في اختيار الأغاني، ووفق في أدائها، فصدح في ساعة ونصف من الزمن الجميل بسيرة عبدالحليم الفنية، حيث استهل الحفلة بأغنية "الحلوة"، وعرج على "جبار"، دون أن يتجاوز "قارئة الفنجان". وطوق هذا الإطار الفني لوحة ضمت مجموعة أخرى من الأغاني مثل: على قد الشوق، أي دمعة حزن، فوق الشوق، زي الهوا، قولوا له، بحلم بيك.
ما يلفت النظر، بعيدا عن أداء عفت الجميل، هو الجمهور الذي يمكن توصيفه ضمن الفئات التالية:
الأولى، هو ذلك القادم من السلك الدبلوماسي، وإن كان حضور السفيرة المصرية لدى المملكة سهى رفعت، منطقيًا وطبيعيًا، كونها عربية وتنتمي لجيل المعجبين بعبد الحليم حافظ، فقد كان حضور سفير جمهورية ألمانيا المعتمد لدى مملكة البحرين كاي بوكمان.، ملفتًا، إذ لم يكن حضوره من باب المجاملة الدبلوماسية، فقد كان تجاوبه طبيعيًا ويعكس انسجامًا مع الأداء الفني للمطرب عفت، وحضاريا مع الفن العربي الأصيل كما جسدته أغاني عبد الحليم. وكما يبدو فهو ملم باللغة العربية، التي تلقى علومها خلال إقامته في القاهرة كسفير لدولته.
الثانية هي مجموعة الفنانين، ممن يقطنون البحرين، أو من البحرينيين أنفسهم، وكان حضورهم، هو الآخر منطقيا، فهم من صاحب عبد الحليم في رحلته الفنية، ومن ثم فهم على علاقة بذلك التاريخ الفني الذي يمثله عبد الحليم.
الفئة الثالثة، وهي الأهم حيث ضمت المعجبين بــ "عبد الحليم"، وإذا كان حضورهم هو الآخر منطقيا، ما لم يكن منطقيا على الإطلاق، كونهم بنتمون إلى ثلاثة أجيال متعاقبة، إذ كان بينهم من لم يتجاوز الثلاثين، وذلك الذي أشرف على الثمانين. جميعهم، دون أي استثناء تفاعلوا مع أغنيات "حليمو"، وتمايلوا رقصا على إيقاعات دف أغاني: "أولو لو"، و"قارئة الفنجان"، و"على قد الشوق". وإن كان من الطبيعي أن يطرب مثل ذلك الجيل الذي عايش التجربة "الحليمية"، فمن المثير للتساؤل أن يتفاعل، وبحماس منقطع النظير، الجيل الشاب الذي لا تربطه بـ"عبدالحليم"، تلك الروابط التي تشد الجيل الذي سبقه. ظاهرة تستحق التوقف والتأمل قبل إبداء الإعجاب إو الانشداه.
السؤال الذي يلح ويفرض نفسه، هو ما الذي يمد فن، ومعه فنانين الستينات العرب، من أمثال أم كلثوم، وعبدالوهاب، وآخرين ومن بينهم عبد الحليم، بل وحتى حسين عبد الرضا، وخالد النفيسي، ومحمد عبده.... إلخ أن يصمدوا ويعيشوا حتى في قلوب الأجيال الشابة، ولا نجد الظاهرة تكرر نفسها في فناني اليوم، إلا في حالات استثنائية تعد على أصابع اليد الواحدة، وتشكل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
وقبل أن يجد الجواب على ذلك التساؤل طريقه إلى ذهني، تجاوزت ذلك إلى الميدان السياسي، فما نراه في الفن، يكرر نفسه ويفرضها على ميادين النشاطات العربية الأخرى مثل السياسة، والثقافة بل وحتى التعليم.
جردة سريعة تكفي عناء البحث، وكد الاستقصاء.
على المستوى السياسي، شهدت مرحلة الستينات بروز قامات من أمثال جمال عبدالناصر في مصر، وبورقيبة في تونس، و بومدين في الجزائر، وياسر عرفات وجورج حبش في فلسطين، والملك فيصل بن عبد العزيز في السعودية، بل وحتى أحمد الخطيب في الكويت، وسالم ربيع علي وعبد الفتاح إسماعيل في اليمن، وقادة الإمامة من أمثال سليمان بن حمير في عمان.
الأمر ذاته، ينطبق على الساحة الثقافية، حيث تقفز لائحة طويلة من الأسماء، نكتفي بسرد مجموعة مختارة منها: إحسان عباس، وغسان كنفاني من فلسطين، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وسليمان فياض من مصر، وعبد العزيز المقالح، وأحمد محمد لقمان من اليمن ، وآسيا جبار من الجزائر، وفاطمة المرنيسي من المغرب، ومحمد الفيتوري من السودان.
حلقت في سماء القاعة الثقافية سحابة سوداء من التشاؤم الممزوجة بالحسرة على الواقع العربي الذي أصر وأرفض، أن أنعته، كما يحلو للبعض أن يصفه، بـ "الزمن الرديء"، فما زلت، كما غيري من أبناء جيلي، نحلم بالزمن الجميل القادم. فمن رحم المعانة تنفرج الأزمات، ومن قسوة الألم يعرف الجنين طريقه نحو الحياة.
لقد ألهبت ليلة عبدالحليم في الصالة الثقافية العواطف، وجعلت الجمهور يتمايل رقصا، ويلهب أصابع أكفه تصفيقا، ويؤدي الغناء مع أحمد عفت وقوفا، لكنها في الوقت ذاته قلبت المواجع لدى البعض، دون أن تنغص عليهم متعة الانضمام للجمهور الآخر المنسجم، مع الفن الأصيل.