رجلٌ غير صالح للحب


عبد الوهاب شعبان | مصر
كاتب صحفي – جريدة الوفد المصرية

هل اختبرت يقينك يومًا ما؟- قلت لنفسي- وأنا قعيد الهمة عن فعل أي شيء، سوى مناطحة الجدران الشاهقة العازلة عن كل ما يشبهني، ولا يأنس المعزول إلا لذاكرته، حتى تنهشه الذكرى، ويكون من الهالكين.
(1)
ذات ليل لا رجاء في قِصَرِه أمضيت ساعات متواصلات في وأد ما يزعج من تفاصيل موجعة، تراوح بين الشوق، والتوق، وبقيت لي واحدة من مفردات السنين الخوالي، وتنقلت بين قصائد الشعراء، وطوق ابن حزم، وكونت قاعدة مستقاة من حوارات صديقي المستمرة عن الحب (لو تزوج العاشقان لماتت القصة)، هذا مريح جدًا للشاردين.
فلتحيا القصة، وتموت الأرواح في الأفئدة..
(2)
وألمّ بي هاجس آخر عن مفهوم "النضج"، متداول هو في فضائنا الأزرق الداكن، وهو لون ننعت به أيامنا الموحشة، ومن نوادر الدنيا أن نتعلق بـ"أزرقنا" كثابت يومي بلا نفور من وحشته.
قلت: ماذا يعني هذا المصطلح؟، وإلى أي مدى يحسم مواجهة في معارك الرغبة في كسر جدران العزلة، ويصنع فارقًا في طريق محتوم ذي اتجاه واحد؟..
وبدت لي ومضة صوفية روحانية تشير إلى كونه مرحلة من التصالح مع المفقود، وقناعةٍ بالموجود.
ما قيمة اليقين إذن؟..وكيف يُختبر؟..
(3)
جمعت بين المعنيين (اليقين - النضج)، فإذا بي كـ"روح" شُد عليها وثاق حبل تتنازعه يدان غليظتان، فلا هي قادرة على الصراخ، ولا رقت لها إحداهما على سبيل الشفقة.
 وتدثرت بـ"اليقين" في كونها حيّة ذات أمل ضئيل في التحليق- لكنه يبقى أملًا-، وساقني النضج إلى ضرورة الإبقاء على وضعيتها منعًا لاستفزاز إحدى الغليظتين وإزهاقها.
ثم تساءلت: ماذا تعني حياة يُشد وثاقها غلاظ شداد بلا أثر لبراح؟
(4)
قيل لي إن الحب يأوي الأفئدة الفارغة، ويعيدها سيرتها الأولى..!
وامتثلت لساحة من الخيال أمُرُّ فيها على ديار "ليلى" – لا أقبّل جدرانًا - لأنني لا أستطيع وصولًا لها، وحين تمر في خاطري أقرأ ما سطرته الأيام الفائتة على واجهتها (لا يسقط بالتقادم)، فأبتسم، وأتكوّر كأمنيات الصبايا حين يحتضن عرائسهن الصغيرات قبل النوم..
ذاكرتي بما رسخ في يقينها ترفض الجمع بين (الحب)، و(الجدران العازلة)، وتحدثني دائمًا عن "الحرية"، هي وحدها التي تضمن بقاءه، وتبلّغ رجاءه.
لذلك يا أيتها البعيدة على قرب (أنا لم أعد أصلح).
(5)
نويت أن أقول لصديقي في لقائنا القريب ( تحيا القصة، مالم يتزوج العاشقان) إذا بقي المحب حرًا، ما الحب إلا إرادة، والأسرى لا يريدون، ولا ينبغي لهم أن يريدوا.
واختبر نضجي البائن في أحرفي المتراصة، فإذا بي كائن فوضوي هوائي، تحمله رياح الرغبات المنقوصة إلى قطع متجاورات من العدم، وأفقد رغمًا عني أناسًا لم يتحملوا نقائصي عفوية الطابع، وأعجز عن الاعتذار، مثلما يقتلني البعد، والانتظار، وأدور في فلك من "سرسبة" الأوقات، السنوات، أملًا في رأب صدع يأبى الترميم.
يخيّل إليّ أيضًا من سحر اليقين بالمستحيل – كمسكنٍ لهياج ذاكرة التجربة- أنّ الطبيعة ستنحاز للطيبين، وأن سنتها الكونية الماضية قادرة على ردّ الجوانح عن غواية التعلق.
ويبين في آخر السطر أنّ المستحيل مجرد أسطورة خادعة تتلاشى عند أول خطوة نحو المحاولة.
(6)
وكلما اختبرت "يقيني" في هشاشة المستحيل تحبطني صلابة الجدران العازلة الفاصلة، وأتسلل مناجيًا من خلفها (يا هذه القريبة البعيدة كم يستغرق الطَّرق لفتح نافذة صغيرة يتسلل منها الضوء، وينبثق الأمل ؟!)..
أسترق السمع، فيجيئني صوت خافت عليك الطرق، وعلى الأمل تسلل الضوء).
وأقول: إن نصائح المحبين قادرة على زحزحة العوازل الصمّاء، بشرط أن يسفر الطرق – مهما طالت مدته- عن موعد يقيني ولقاء.
(7)
هناك من أدمنوا الطرق ولم يفتح لهم- ما جدوى المحاولة إذن؟
والتجارب مذاهب، بعضها لم يصل إلى أية نتائج رغم تعدد المحاولات.
أما تسمية "شرف المحاولة" فهي حيلة دفاعية لإزاحة مرارة الفشل مرة واحدة، واستمرائه على الدوام.
حتى يتمدد النضج إلى جوار اليقين في تابوت (العدمية السلبية)، أو بمفهوم الفضاء الأزرق المنيّل (اللاشيء).
(8)
تلك محاولة عبثية لبلورة حوار مزمن مع ذات شاردة، تعيش في متوالية (التواطؤ الكوني) على أحلامها، وتتحلل من آثار هزائمها دون جدوى.
ولولا النضج ما خطت يد واحدة حرفًا مقنعًا، ولولا اليقين لتجمد العالم مثلما تجمدت أنا، وأشباهي يا هذه البعيدة القريبة.
غير أني لم أنجح في اختباراتهما حتى الآن.

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك