عُمان ابتُلِيتْ بقوم جُوُعهم وشَبَعهم مُتْعِبٌ ومُزْعِجٌ

 

حمد بن سالم العلوي

 

ليس للدول أن تختار شُعوبها، ولا جيرانها ولا موقعها على الجغرافيا الكونية، ولكنها عليها أن تتعايش بحكمة مع واقع الحال، ونحمدالله على أن جعل لعُمان شعب تجذَّر عرقه على المحبة، والأخوّة والوفاء في دوح مجدٍ من العزة والكرامة والإباء، فَسَرَى في دمه جينات عُمانية نقية، تتناقل من الآباء إلى الأبناء، لا يدخلها باطل مهما زاغ من حولها الأشرار الدخلاء، فغزارة مائها النقي لم ولن يلوثها خبث الجهلاء، فهذه عُمان اليوم كالأمس بزعامتها إمبراطورية للخير والشهامة، وستبقى على نفس نهجها العظيم تئد الأشرار، وتدفنهم بخياناتهم في رمس يُداس بالأقدام فبه يُطمر الغدر والغدار، فلن يعييها كثرة الكرُّ والتكرار، فالشَّرُّ لا محالة راحل وبأمر الله إلى زوال.

لقد مضى الدَّهر عندما كان القوم في عَوَز وجوع، فيومذاك فتحت مسقط صدرها لهم، وأشبعتهم من جوع وآمنتهم من خوف، وذلك يوم كان الجوع والخوف لهم رديفان، فكان خشاش الأرض لا يكفيهم، ولا يُغنيهم عن قطع طرق القوافل وسلبها بضاعتها، حتى إن بعض أئمة عُمان قد أهدروا دماء أكابر قطاع الطرق من كثرة ما ألحقوا من ضُرٍّ بالناس، وقد كانوا إذا ما قصدهم بعض عِلية القوم من بلدان الجوار، ولم يجدوا شيئاً من القوت ليُكرموهم به، وليس لديهم من حيلة أخرى تغنيهم، فلم يترددوا عن قصد دار السَّيِّدَ في مسقط، وذلك ليرفدهم بالمونة الكثيرة والمتنوعة لإكرام الضيوف، ويُلبسهم الخنجر العُمانية ليضفي عليهم شيئاً من مهابة السلاطين العُمانيين.

وقد ظل الحال كذلك حتى حقبة الستينيات، وذلك عندما ظهر من الأرض النفط، فأبرق أحدهم مُخاطباً جلالة السلطان- وقتذاك- ليُعلمه أنه ظهر النفط في جانبهم، ويُطلب منه أن يرسل مندوباً عنه لأخذ نصيب من العائد الجديد، ولما كان ترفع السلاطين العُمانيين عن مزاحمة رعيتهم في أرزاقهم، فقد ردَّ عليه بالقول؛ إذا كان يكفيكم من العَوَز، فنحن لا نُريد شيئاً منه. فهكذا كان وظل ترفُّع السلاطين العُمانيين عن فتات الرزق، وهكذا سيظل بإذن الله تعالى، وقد تتابع للقوم غنى المال، وكثر لاحقاً حتى أبطر النفوس التي شبعت بعد جوع، ومع ذلك ظلت عُمان على عزتها وترفعها، ولما رحل الغريب عن ديارهم، لم تقتنص عُمان الفرصة، فتعود عن موقفها السابق، لا لشيء إلا لأنها لم يكن في عقيدتها النكوص، أو الانقلاب على المواثيق والعهود، ولا من سلوكها الغدر وفعل الخبائث.

لقد نسي القوم ذلك، أو لنقُل لقد أنساهم الشبع الماضي القريب، وتطاول الجياع بعد الشبع على أسيادهم، وقد سلبت كثرة المال منهم كل القيم والأخلاق الحميدة من سلوكهم، وإن كان ذلك ليس بجديد عليهم، فلم يهتدوا بالأخلاق العُمانية من ذاتهم قبل ذلك، إلا قهراً بالحاجة والجوع، والطمع فيما كان من نعيم في يد الأسياد، فتأرنبوا "نسبة إلى وداعة الأرنب" يوم كان الجوع يقرص بطونهم، والخوف يُطيِّر أذهانهم، وستأسدوا يوم شبعوا، وقد غرَّهم غض الطرف عنهم، ولم يتوقف أذاهم على عُمان وحدها، بل سافر بهم مع الأحلام إلى كافة أرجاء المعمورة، بلا خوف ولا خجل، لأنَّ المال المُفاجئ خلق غشاوة على العقل، وأفسد دنياهم وآخرتهم.

لقد زاد في الطين بلة، أن تمادي مكرهم وفساد خليقتهم، بأن وجدوا من باع الكرامة بالدولار، وباع الدين والوطنية بالمال، وتناسى أن العقوبة الربانية للراشي والرائش والمرتشي في الدرك الأسفل من النار، الأمر الذي أوهم المفسدين في الأرض، أن الفأر من الممكن أن يكون في مقام الحصان، وأن الصعلوك في مقام ملك الملوك، ولأنَّ القرآن الكريم لا يعنيهم بشيء، فنسوا ما كان قد مروا عليه بالقراءة جبراً في طفولتهم.

لقد قصَّ القرآن لهم القصص، فذكر أن فرعون وهامان قصمهما رب العزة والجلال، لشدة ظلمهما وطغيانهما في الأرض ونذكِّر هنا بقوله تعالى في الآية التالية: (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ)، القصص (آية رقم 6) والله سبحانه وتعالى حيٌّ لا يموت، والقرآن الكريم ليس أساطير الأولين، وإنما دستور إلى الناس والنذير الإلهي إلى يوم الدين، ومن آياته أيضاً قصة قارون الوارد ذكرها في الآيات التالية: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) القصص (81- 76) فهذه آيات واضحة لمن أراد أن يتعظ ويعتبر، ولكن أين هم أولو الألباب؟!

لكن من كان الشيطان وليه فقد خاب وخسر، فقد قال تعالى عنهم بئس للظالمين بدلاً، والأمر المؤسف أن شياطين الإنس لا يكتفون بالوسوسة كما هو حال شياطين الجن، بل يوسوسون ويقومون بالأفعال، ويدفعون الأموال ويسفكون الدماء، وهذه أفعال يترفع عنها شياطين الجن، وهنا يقع مكمن الخطر، عندما يتحول الإنسان إلى شيطان، ويتفاخر بأفعاله المفسدة الباطلة، ولا يشعر بذرة ندم على ما يقوم به، وإنه لأمر مؤسف حقاً، أن يجد هذا الشيطان الكثير من السذج الذين يُجندهم بالمال لتحقيق مآربه الجهنمية، فأين الخوف من الله عز وجل، إذا أنتم لا تخافون من البشر؟!! إن يوم الحساب قريب، ويومها لا ينفع مال ولا بنون، ولن يفديكم المال لأنه في الأصل هو مال الله، وهو سائلكم عنه من أين أتيتم به وفيما أنفقتموه؟!!.

فنقول للخونة والمُرتشين مهما لبستم من أثواب الوطنية، فأنتم عراة لا محالة، وإن الشعب العُماني لن يغفر لكم، وأن عُمان ستظل عصية على الجرذان والطغاة، هذا ما أخبرنا به التاريخ، وأن هناك حثالات قد مرَّت في السابق من نفس الدروب الخافقة، لأنها لم تستح على نفسها من العيب، وحتى وإن عُفِيَ عنها بمكرمات العفو السامي، غير أنَّها ستظل في يقين الشعب العُماني مدانة على أفعالها القذرة، وإن الذين لم تغنيهم مكارم صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم - حفظه الله وأبقاه - فلن يملأ بطونهم إلا التراب، ولن يظفروا إلا بسواد الوجه والسمعة السيئة، اللهم نسألك الثبات على الحق، ونسألك أن تجرنا من سوء المنقلب من بعد الشبع.

حفظ الله عُمان من كل مكروه، وأعزَّ الله جلالة سلطان عُمان المفدى، والشعب العُماني الكريم الأبي.