ما يُراد للجزائر

 

علي بن مسعود المعشني

كمُتابع للشأن الجزائري عن كثب ينتابني خوف شديد على مستقبل هذا البلد الحيوي العزيز ومنذ زمن بعيد، وهذا الخوف ليس مرده المؤامرات الخارجية على الأقطار العربية الحيوية والتفرد بها، ولا لعودة الربيع المشؤوم في فصول جديدة وبوسائل غير مألوفة لنا، بل للسببين مجتمعين وعليهما حجم العيوب المتوارثة والمُرحلة بداخل الجزائر بفعل أسباب كثيرة والتي سيتسلل من خلالها التآمر والربيع معًا.  فالجزائر بلد نموذجي في التناغم بين مساحته وموقعه وثرواته الطبيعية والبشرية وهذا التناغم يرعب الكثير من الخصوم ويجلب الغيرة من الأشقاء كذلك، لهذا تتقاطع مصالحهما لإعاقة النموذج الجزائري عن النمو وإعادته إلى المربع الأول على الدوام وكما حدث في تفاصيل العشرية السوداء (922002م).

الجزائر ككل دول العالم تحمل في داخلها أضداد وتناقضات وعيوب بالنسبة والتناسب وما أن توظف أي من تلك العناوين من قبل قوى كبرى خارجية أو داخلية تصبح قابلة للتفجر والاشتعال وتتعاظم حتى تُجهد الدولة ومكوناتها. المفاصل الحادة لمشكلات الجزائر والتي لم تُحسم ومنذ عام الاستقلال عن فرنسا 1962م تتمثل في صراعات الثورة والدولة، والعرف والقانون، وصراع الأجيال وصراع الهوية الجامعة للجزائريين. حيث انتقلت شرعية الثورة لتمثل شرعية دولة الاستقلال، وتعاقب العسكر على السلطة والنفوذ حتى تعاظم هذا العرف وأستعصى على قيام دولة القانون، وبقي حزب جبهة التحرير هو رمزية التجربة الحزبية في الجزائر، ولم يجد جيل الاستقلال نفسه في خارطة دولة الاستقلال والتي تخندق بداخلها مناضلو الأمس ورموز الجهاد لينعموا بدولة الاستقلال دون منازع أو شريك، وبقيت هوية الجزائر سؤالا مفتوحا دون جواب، هل الجزائر عربية أم أمازيغية أم إسلامية أم جزائرية فقط أم أفريقية!؟ بينما الجزائر في حقيقتها مزيج من كل هذه الثوابت والمسميات.                        

تزامنت العشرية السوداء للجزائر مع حصار العراق تمامًا، حيث صُنف البلدان بأنهما مهيئان للخروج من العالم الثالث إلى العالم الثاني خلال عقد من الزمان ما لم تتم إعاقتهما ليصبحا نموذجين عربيين ثم مشروع نهضوي عربي يمكن محاكاته وتقليده، وهذا ما يرفضه الغرب جملة وتفصيلًا ويحاربة بلا هوادة أو فتور كي يبقى هو النموذج فقط وتتكرس التبعية له دون غيره. الجزائر اليوم في فترة نقاهة من عشرية الدم وتداعيات الربيع عليها حيث تحملت جزءا مهمًا من هذا الربيع بفعل تفاعلها مع الجار الليبي والحليف والشريك السوري ولم ينسَ رعاة الربيع أو يتناسوا دور الجزائر المحوري فيما عُرفت بجبهة الصمود والتصدي عام 1977م وحشدها للموقف العربي المضاد لاتفاقية كامب ديفيد. كما لم ينسَ خصوم الأمة موقف الجزائر من دعم الجماهيرية ونظام العقيد معمر القذافي كون البديل سيكون كارثيًا على الجزائر والمنطقة. كما لم ينسَ الأعداء دور الجزائر في دعم النظام والدولة في سوريا ووحدة التراب السوري بالخبرات من سنوات الجمر واستقبال اللاجئين السوريين وتقديم المحروقات مجانًا للدولة السورية ودعم مواقف الدولة السورية في المحافل والمنظمات العربية والدولية. ما تسرب عن صفقة إغلاق ملف العشرية السوداء أن ثمنها كان إجبار الجزائر على بيع نفطها وغازها باليورو والدولار وإيداع عوائدهما في البنوك الفرنسية والأمريكية، وهذا الإكراه كان المخرج الوحيد والمُتاح كما قيل لحقن الدماء وطي سنوات الجمر، أما اليوم فإن الأمر تجاوز صفقات ومبيعات النفط والغاز إلى صفقات قرن وتدمير الدولة الوطنية والعبث بمقدراتها إلى حد الإجهاد المُنظم وهذا ما نراه شاخصًا أمام أعيننا اليوم في النموذج الليبي.

المماحكات والمماطلات والتجاذبات التي تشهدها الساحة الجزائرية اليوم من احتكام الشعب إلى الشارع والمطالبة بتحكيم مواد الدستور وتفعيلها وتشبث الرئيس بوتفليقة ومن حوله بالسلطة وتقديم تنازلات ظاهرية لتحقيق مكاسب باطنية والرهان على كسب الوقت، أخرجت إلى السطح كل صراعات العرف والقانون والهوية والأجيال معًا يجعل من الدولة الجزائرية في وضع مثالي للاختراق نتيجة هذا الخواء وإطالة عمر صراع الأجنحة وأدوات الموروث السياسي والتاريخي وبالتالي يتحقق للمتربصين مشروعهم التخريبي والذي لو انطلق - لا سمح الله – فلن يتوقف إلا وفق صفقة من العيار الثقيل تتمثل في تطويع الجزائر لقبول تمرير صفقة القرن وتبعاتها وما سيترتب على ذلك من جرح عميق لمشاعر الجزائريين وما تمثله فلسطين في الوجدان الجزائري.

حري بالقيادة الجزائرية أن تدرك الظرف التاريخي الدقيق الذي تمر به الأمة والعالم وأن تغلق ملف الرئاسيات في أسرع وقت ممكن فالملف المفتوح في السياسة يعني المزيد من الأوراق ولن تكون جميع تلك الأوراق وطنية ولا مُرضية، وعليها أن تعلم بأن المخاطر هذه المرة من العيار الثقيل وستكون لها آثار وتداعيات جسيمة.

قبل اللقاء: جميع المظاهر في دولة الاستقلال العربي توحي بحجم ثقافة القطيعة في الدولة بين الحكومات وبقية مكونات الدولة لهذا يبرز الانسداد السياسي ويطل برأسه في جميع الأزمات وفي مراحل عمر الدولة وأطوارها. وبالشكر تدوم النعم..