الحضارة عربية أم إسلامية؟!


محمد عبد العظيم العجمي | مصر

الخصوصية التاريخية لميلاد الحضارة الإسلامية تكاد تختلف تماما عن ميلاد كثير من الحضارات الأخرى ، حيث تفتقت الحضارات العالمية "الفرعونية واليونانية والرومانية والأوربية"، وقامت على الجهد البشري المحض ، ليس البشري العام إنما المنوط بهؤلاء الأناس الغير معقولين من الذين ألهموا هذا الفتح العقلي ليقودوا به وجهة التغيير الحتمي على الأرض ، ويعلوا من شأن العقل البشري (العلمي والفكري والأدبي) ، ويجمعوا لبنات الحضارة جنبا إلى جنب ليثروا هذا العطاء التاريخي ويشيدوا هذا الصرح الإبداعي الذي يوحي بخصوصية الاصطفاء الإلهي للكائن البشري والتمييز له على جميع المخلوقات لتحقيق خلافة البشر على الأرض ..
كان الاصطفاء الإلهي لهذه العقول التي ألهمت فكرة البحث في الكون فاستطاعت تتبع هذا الوميض الفطري الملقى في الروع، من خلال البحث والجهد وأن تجعل أسسا للعلوم والفنون وتوضّع لها قواعد وبراهين وأدلة ، ثم تنقل علمها وجهدها إلى من بعدها حتى يستلهم كل جيل من الذي قبله ، ويسلم كل مجتهد الراية إلى من بعده ليكمل رسالة البحث وعالمية الاستخلاف .
أما العرب والحضارة الإسلامية فهم فصيل منفصل مختلف عن كل سابقه من الحضارات الأرضية .. فلو تتبعنا البحث المبسط لن نجد ما يسمى "بالحضارة العربية"، إنما لم يطلق عليها من داخلها أو من خارجها إلا "الحضارة الإسلامية"، وإن كان ينسب إلى العرب اليد الطولى في قيامها، فإن الإسلام هو بلاشك "المفجر" الذي فجر ينبوعها ، وأقام أودها وأعلى بنيانها ونشر في ربوع الأرض "مشرقها ومغربها"  ثقافتها وعلومها ..
وتأتي هذه الخصوصية "للحضارة الإسلامية" من خلال: أن العرب لم تكن أمة بالمعنى العلمي المعروف للأمة وهو "جماعة من البشر تتوفر فيها عناصر القومية، التاريخ، اللغة، العادات، الثقافة، الدين، الجغرافية .. وترمز إلى النواحي الثقافية والحضارية للمجموعة الإنسانية ..(المعجم الوسيط)".. فلما جاء الإسلام جعل من هذه القبائل الشراذم المتناحرة التي يبغي بعضها على بعض، جعل منها أمة بالمعنى المتكامل الذي جمع الدين (الكتاب والسنة) واللغة والأدب والتاريخ والثقافة .. وقامت على إثر هذا الاجتماع "الدولة " بأركانها ودعائمها من القوة والإمامة والحيز الجغرافي وغيرها من مقومات الدولة، ثم هذه الحركة التوسعية التي أنيط بها نشر دين الله في ربوع الأرض "لتكون كلمة الله هي العليا"..
ولا مجال هنا لاستعراض الوضع العربي العشائري القبلي المتناحر المتأخر عن حالة الحضارة والثقافة والعلم والأدب، والمفتقد لأدنى سمة من سمات المدنية أو الحضارة أو العلم ، وإذا كانت باختصار هذه حالة الجمع العربي الهامشي قبل الإسلام ، وقد صار من البداوة إلى الحضارة والثقافة في أقل من نصف قرن من الزمان ، فلا جرم أن مرجعية هذه النقلة الغير منطقية لن تكون إلا للطارئ الذي طرأ على مكونات هذه الحياة ، فأخرجها من الظلمات إلى النور ومن غياهب العدم إلى حيز الوجود..فلما قامت الدولة بدعائمها واستوت على سوقها، من الحكم والقوة والدين ، وقد كان الدين هو الأساس الأول الذي أرسى دعائم هذه القوة الممدودة من السماء إلى الأرض، حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم لقريش "قولوا لا إله إلا الله تدين لكم بها العرب والعجم" ، وقد كان..
فقد أصبح العرب جميعهم تبعا لقريش في هذا الأمر، وصارت الأمم تبعا للعرب الذين اصطفاهم الله تعالى للقيام بهذا الدين ونشره وتبليغه للعالم "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)"آل عمران ، "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)" آل عمران ,,ثم بدأت حركة التقعيد للعلوم المستنبطة من الكتاب والسنة الخادمة لهما من "الفقه والحديث والتفسير واللغة والنحو والبلاغة والأدب .."، ثم ما لبث العرب أن انفتحوا على الحضارات الأخرى اليونانية والهندية ، وأخذت الترجمات والنقول إلى العربية تشتعل في عهد الخليفة المأمون ومن بعده اشتعال النار في الهشيم ، فدخلت الفلسفة وعلم الكلام والإلهيات والكيمياء والطب والهندسة وغيرها ..
انكب العرب على الترجمة وانطلقوا يفحصون ويمحصون هذه العلوم ويدرسونها، ثم كانت هذه النقلة الثقافية التي بذرت بذرة الامتداد الحضاري ، وألقت في ربوع العلم تلك البذرة الأولى للحضارة الإسلامية ، فأثمرت في حدائق المعرفة حضارة كونية نورانية أشرف على بناءها وعمادها دين الإسلام وحرست الأخلاق الإسلامية فضيلتها وهذبت ظاهرها وعمرت باطنها ، فكانت الحضارة فتحا على البشرية وكان الخير والنفع حاديها إلى بقاع الأرض مشارقها ومغاربها ..ففتحت البلدان وشيدت المدن الجديدة ، وبنيت الجامعات والمدارس على أحدث النظم في وقتها، التي تعتمدها الدولة رعاية وإدارة ونفقة ورصدت للعلم والبحث العلمي أموالا طائلة ، وانتشرالتأليف والترجمة والنسخ .. وعلا نجم العلم حتى صار علما على بلاد الإسلام حين أفلت نجوم الحضارات وغاضت مياهها .
يقول الباحث اليهودي (فرانز روزنتال) "يعد ترعرع الحضارة الإسلامية من أكثر الموضوعات استحقاقا للتأمل والدراسة في التاريخ، ذلك أن السرعة المذهلة التي تم بها تشكل هذه الحضارة أمر يستحق التأمل العميق وهي ظاهرة عجيبتة جدا في تاريخ نشوء الحضارة ، ويمكن تسميتها بالحضارة المعجزة لأنها تأسست وتشكلت وأخذت شكلها النهائي بشكل سريع جدا ووقت قصير جدا ".
لم تكن هذه الانطلاقة العلمية النهمة النزاعة إلى العلم مجرد مد طبيعي للقوة المسيطرة ، والهيمنة السياسية التي حط جنودها في كل شبر من أرض الحضارات الآفلة "فارس والروم" ، ولم تكن نتيجة عقل عالم تواق متهافت للبحث والدرس كما هي قيامة الحضارات السابقة ، ولم تكن مجرد نهم نفسي رزق شغف العلم .. إنما كانت أصلا دينيا دعت إليه الشريعة والعقيدة الإسلامية، وحثت وحضت عليه بل وألزمت طائفة من أمتها أن تقوم عليه كفرض عين في كل علم من العلوم ، وأثّمت أهلها إن أهمل من أهمل في القيام بها ، وجعلت للقائمين بأمر العلم شأنا عظيما لا يرث إلا من ميراث الأنبياء "الذين لم يورثوا دينارا ولا درهما ، ولكن ورثوا العلم "، ورفع القرآن قدر أهل الإيمان وأهل العلم درجات، وأقام العلم مرجعا وحكما عدلا وشرفا في الدنيا والآخرة، حتى انبرى كل ذي لب حاضر وقريحة متقدة وذهن متفتح أن يندفع إلى هذا الطريق الذي لا يكل من سلكه ، ولا يخيب من رجا نفعه ، ولا يسلم صاحبه إن صلحت نيته إلا إلى فلاح الدنيا والآخرة..
يقول المستشرق الألماني شاخت جوزيف "إن من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضر قانونه الديني الذي يسمى بالشريعة، وهي تختلف اختلافا واضحا عن جميع أشكال القانون .. إنها قانون فريد ، فالشريعة الإسلامية هي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها ".
من الاستعراض المبسط السابق للوضع العربي والنقلة الحضارية الإنسانية للعرب من الجاهلية إلى نورانية " الحضارة الإسلامية "، نكاد نقطع بهذا الدين الأدبي والحضاري والتاريخي الذي يدين به العرب للإسلام ، وهو إن تخلف (الدور العربي) نسبيا فلا تزال هذه الكيانات القابعة الباقية من الدول والممالك والإمارات والأشلاء الممزقة، لا تزال تدين بوجودها الحتمي للإسلام وليس لأي دور غيره .
وإذا كان هذا الأفول الحضاري قد حدث، فهو لبعد العهد بالإسلام ونسيان العهود الأول التي قامت عليها الحضارة الأولى، ولا يسأل الإسلام عن ذلك وهو الداعم أو المكون الأول ، إنما يسأل عنه الذين قصروا في الدور الأدبي وتبليغ الرسالة وإغفال أسباب العلم .. أما هذا القصور فيمكن استدراك الهمم ، واسترجاع العزم الأول واستنفار الجهود كما فعل السابقون، وقد وعدنا بأن لو عدنا عاد لنا ماكان من مجد ، وإن تولينا يستبدل الله قوما غيرنا لا يكونوا أمثالنا.. وقد حدث .
أما أن يحدث هذا التنكر البين، يعقبه هذا التحول الأحمق الذي ولى شطره كل وجهة إلا الوجهة الأولى، وقد أثبت فشله في كل شطر من أشطار الأرض التي تولاها، فما أغنت الشيوعية الماركسية ولا الليبرالية ولا الديمقراطية ولا الرأسمالية ولا العلمانية، كما لم تغن عمن سبقوا آلهتهم التي كانوا يدعون من دون الله .. إذا كانت الحضارة الغربية قد أثمرت لأهلها وآتت أكلها لمن أخذ بأسبابها، فإننا لا ننكر ما قام به أصحابها من استفراغ الجهد وفناء البحث واستطراق لب العقل حتى تفيض قريحته بما فاضت به من وهج الحضارة واستجماع أسباب القوة والتمكن والسيادة ..ولا غرو أن يدين أصحاب هذه الحضارة لمبادئهم العلمية التي أثمرت لهم وأينعت واستوت على سوقها.
 أما العرب !! فلا زلنا نلهث في تخبطات التجارب وبحور الظلمات، فلا تسمن ولا تغني من جوع ، فإذا كان أهل كل حضارة قد آمنوا بمنهجهم الذي فتح عليهم به، وإذا كانت لكل حضارة خصوصية عن سابقتها وعن التي تليها، فإن خصوصية هذه الحضارة هي "الإسلام" ولا شيء غير الإسلام ، هذا الدين الذي استنهض الأمة من الحضيض إلى المحل الأرفع، وشاد بذكرهم بعد طول خمول.. استطرفت الأمة ما تبقى في يديها من نعيم قد خلفه عهد الحضارة الأول، ورضوا بهذه الكيانات الممزقة الذليلة على الكافرين العزيزة على المؤمنين، واستمرأوا هذه الحراسة الغربية التي تحيط أسوارها بحدودهم من كل جنب ويقوم على حراستها قوم كانوا يعطوا الجزية لهم عن يد وهم صاغرون ..
إن لم تكن هذه النهضة الواجبة لأجل الغيرة على الدين المفتقد ولربه ولنبيه، فلتكن هذه الهبة لأجل عز مفقود ومجد مضيع وإرث تليد.. نسعى أن نسترده فترد معه كرامتنا المسلوبة وحقنا المضيع" وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)"الحج .

 

 

تعليق عبر الفيس بوك