من سلك طريقا... (2-2)

 

 

عائشة بنت أحمد البلوشية

رغم أنَّ العنوان اليوم كان يفرض عليَّ بداية محددة، إلا أنني فضلت تأجيل الحديث الشريف المروي عن أَبي الدَّرْداءِ، قَال: سمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يقولُ: "منْ سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغِي فِيهِ علْمًا سهَّل اللَّه لَه طَريقًا إِلَى الجنةِ، وَإنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطالب الْعِلْمِ رِضًا بِما يَصْنَعُ، وَإنَّ الْعالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ منْ في السَّمَواتِ ومنْ فِي الأرْضِ حتَّى الحِيتانُ في الماءِ، وفَضْلُ الْعَالِم عَلَى الْعابِدِ كَفَضْلِ الْقَمر عَلى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وإنَّ الْعُلَماءَ وَرَثَةُ الأنْبِياءِ وإنَّ الأنْبِياءَ لَمْ يُورِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا وإنَّما ورَّثُوا الْعِلْمَ، فَمنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحظٍّ وَافِرٍ" رواهُ أَبُو داود والترمذيُّ.

وذلك حتى لا أفقد الطريق إلى الجنة بمسلك واحد، ولربما جاء ذكري لهذا الموضوع اليوم بعدما علمت عن امرأة تسعينية في إحدى القرى العُمانية الجميلة المستظلة بشم الرواسي، تبلغ من العمر أربعة وتسعين عاما، كانت تصرُّ على الذهاب للمدرسة (محو الأمية) بشكل يومي، لكنها كانت تعتبر الفصل بيتها؛ فهي تأخذ العلوم والأخبار من صُويحباتها اللاتي يصغرنها سنًّا، وكانت تلح على المعلمة إلحاحا شديدا كي تعطيها واجبا تقوم بحله في المنزل، ورغم أنها كانت فور خروجها من المدرسة تُمسك بأي طفل من العائلة وتُجلسه إلى جوارها حتى ينتهي من أداء فروضها المدرسية، إلا أنها كانت مُواظبة على الحضور والانصراف، وقد اتَّفق ذووها مع المدرسة على أنْ تكون مُستمعة فقط، إلا أنها كانت تطير فوق الغمام وهي في طريقها إلى مدرستها، بمواظبتها على الحضور والانصراف، وقد كان من الطبيعي أنْ تجدها قد استأذنت من المعلمة للذهاب لإحدى العجائز المقعدات، ثم تعود قبل انتهاء الحصة، كانت شُعلة من نشاط روحي، لا تحب ركوب المركبة، بل تؤدي كل مشاويرها مشيا على الأقدام، وعندما شاءت الإرادة الإلهية أن قبض الله روح الجدة فضيلة.. أدرك الجميع أنها لم تكن مجرد إنسانة عادية، بل هي رمز للنشاط والحب والإيجابية بين الجميع، ومن لم يحضر جنازتها بكى لبكاء جميع كبيرات السن اللائي جاوزن المائة؛ لأنه بفقدها فقدن المرح والحياة التي تبثها كلما دخلت عليهن. تذهب للمدرسة، ولكنها جعلت من المدرسة منطلق شعاع حيوي يربطها بالمجتمع المحيط، سلكت طريقا تلتمسُ فيه عِلما بفطرتها فحفظت قصار السور، والتقطت بعضا من هنا وهناك، لكنه كان طريقا كي يُحرك كل لسان في تلك الليلة ليدعو لها بالجنة والرحمة والمغفرة، بكتها الدروب التي سلكتها، والطرقات التي عبرتها، والعجائز المئويات اللائي أنساهن ألزهايمر جميع من حولهن ولم ينسيهن الجدة فضيلة، وكم كنت أتوق لرؤيتها واللقاء بها عندما عرفت حكايتها، ولكن قدر الله وما شاء فعل.

من سلك طريقا يلتمس فيه إغواء، سهل الشيطان له به طريقا إلى كلِّ أنواع الشرور، بهتك عرض أو اعتداء على بريء أو تسور منزل، فأضحى لطخة سوداء لأسرته يحاولون اللواذ عنها كلما جاء ذكره، ولم يبق له سوى أم تدعو له بالصلاح والفرج، أو ربما لا أحد يريد التعرف عليه، فمجتمعنا نسيج جميل من ترابط متناغم الأطياف يرفض النباتات السامة والخبيثة.

من سلك طريقا يلتمس فيه إحسانا لأب أو أم أو كليهما، سهَّل الله له به التوفيق في أمور حياته، أفلم يقل جلَّ قائلا عليما في سورة الإسراء في الآية 23: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما"، أن جعل الإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بعبادته سبحانه؛ لذا فإن التوفيق حليف المحسن لوالديه.

من سلك طريقا يلتمس فيه أكل لحوم البشر، سهَّل الشيطان له به كل مزينات الغيبة والطعن والقذف، فأصبح منشغلا بفضح عيوب غيره التي افتعلها عقله المريض، وصار كالذبابة الناقلة للقذارة، ينتقل من أذن إلى أخرى، ونسي أن لديه بيتا من زجاج، ولديه أبناء وبنات، وغاب عن ذهنه تماما مثلنا العماني الرائع "من عاب، استعاب"، وأنَّ سهام الليل تُصيب ولو بعد حين، فليس كظلم الكلمة أثر قاتل، لأنها كالرصاصة تصيب قائلها أولا، فالكلمة تدخل في نطاق "السلف والدين"، ما قلته بالأمس عن فلان أو أبناء فلان ها هو اليوم يعود عليك بما لا ولم تتوقعه؛ فالله الله في ألسنتنا، فرُب كلمة حقنت دما، ورب كلمة أشعلت أوار حرب شعواء.

من سلك طريقا "يتمصلح" به من وظيفته، سهَّل له به رفقاء السوء طريقا إلى الغش والتدليس وتعطيل مصلحة المواطن؛ وبالتالي العبث بمقدرات الوطن، فأضحى خائنا لربه ووطنه وولي أمره، فخسر دينه ودنياه، وباع آخرته من أجل ظهور كاذب ومظاهر براقه، قد يفضحها الله في غمضة عين وانتباهتها.

من سلك طريقا يلتمس فيه السمو والجمال والنظافة، سهَّل الله له به بيئة جميلة مريحة، وأجيالا متأسية بما وجدته من سيرة الأجداد، ووجد انعكاسَ ذلك في روحه وقلبه وبيته، علينا أن نبذل قصارى جهدنا وأن نضع الأهداف المحدَّدة أمامنا، وأن نسأل الله التوفيق ونتأكد أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

-----------------------

توقيع:

"فراشي فراشُ الضيفِ والبيتُ بيتُه،

ولم يُلهني عنه غزالٌ مقنعُ.

أُحدِّثُه، إن الحديثَ من القِرى،

وتعلمُ نفسي أَنه سوف يهجع"

(عروة بن الورد)