جنونٌ مغفور

 

محمد علي العوض

الشعر خروج عن السائد والمالوف.. إبحار عكس التيار.. جنونٌ مغفور، فالنّاس بحكم تفكيرهم كما يقول عبد الملك مرتاض "قادرون على أن يُفكروا بشكلٍ أو آخر ولكن لا يستطيعون بتفكيرهم أن يكونوا شعراء" لذلك يعرف الجاحظ الشعر بأنّه صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير.. فإذا كان الشعر جنونًا فما بالكم بجنون الشاعر؛ أي جنون الجنون نفسه؟

في العام 2001 أجرى الباحث الأمريكي جيمس كوفمان دراسة نفسيّة حول علاقة الإبداع بالاضطرابات النفسية والعقلية توصل فيها إلى نتيجة تقول إنّه من بين 1629 كاتباً أصيبوا بأمراض عقلية أو نفسيّة كانت نسبة الشاعرات هي الأعلى. ثم أعاد التجربة بعد عدة سنوات وكانت العينة هذه المرة تشمل 520 حالة من مختلف مجالات الإبداع كالكتابة والتمثيل والموسيقى، فوجد مرة أخرى أنّ الشاعرات هن الأكثر عرضة للأمراض العقلية والنفسية.

ولكن لماذا الشاعرت بالذات؟ يقول سعد البازعي في كتابه "جدل الألفة والغرابة" إنّ عبارة "جنون الشاعرات" تحمل من الإيحاءات ما يبتعد عن الدلالة الفعلية لما خلص إليه البحث العلمي الذي أجراه ويجريه باحثون مثل كوفمان.. فالجنون يحيل إلى دلالات رومانسية حين يقترن بالشعر، دلالات تتضمن الإبداع والخروج عن المألوف ومخالفة السائد إلى غير ذلك مما شاع قديماً وحديثاً... علماء النفس والأعصاب ليسوا معنيين بجنون الشعراء أو الشاعرات بالمعنى الرومانسي، أي بالجنون بوصفه حالة توهج إبداعي وهيام في وادي عبقر، وإنّما بما يصيبهم مثل غيرهم من اضطرابات قابلة أو غير قابلة للعلاج.

ونفهم من كلام البازعي أنّ الأمر ربما يكون غير دقيق، أو من قبيل الصدفة، ولا يمكن الاعتداد به لا سيّما إذا عرضناه على الدراسات التي تقول إنّ المرأة أكثر تحملا لقسوة الظروف من الرجل، فقد راجع باحثون في جامعة جنوب الدنمارك بيانات تاريخية حول معدّلات وفيات الرجال والنساء الذين عايشوا مجاعات وأوبئة أو كانوا يباعون كعبيد؛ فوجدوا أنّ أعداد النساء اللائي تجاوزن تلك المحن أكثر من الرجال، وأنهنّ تمكّن من النجاة بشكل أفضل.

إذًا اللوثة العقلية كالمنية حين تنشب أظفارها لا تفرق بين مذكر ومؤنث، كبير أو صغير؛ وبمثلما أصابت اللوثة أديبات على شاكلة مي زيادة ونازك الملائكة وأودعتهما المصحة العقلية في أواخر أيامهما كذلك أصابت قيس ليلى أشهر الشعراء المجانين كما تورد كتب الأدب؛ والذي أخذوه إلى الحج ليشفى من حب ليلى فسأل الله أن يزيده تعلقاً بها:

 

يقر بعيني قربها ويزيدني

بها عجباً مـن كان عندي يعيبُها

فيا نفسُ صبراً لستِ والله فاعلمي

بأول نفسٍ غابَ عنها حبيبُها

 

وقد كلف بها منذ أن كانا صغيرين يرعيان البهم في الخلاء:

 

تعلَّقت ليلى وهي ذات ذؤابة

ولم يَبدُ للأتراب من ثديها حجمُ

صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البَهمُ

 

وكان إذا اشتد شوقه يمر على أطلال المنازل التي كانت تسكنها ليلى فيقبّلها ويلصق بطنه بها قبل أن يتقلّب فيها ثم يبكي منشداً:

 

أمرُّ على الديار ديار ليلى أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حبُّ من سكن الدّيارا

 

وبلغ به الجنون بعد أن مُنعَ منها أنّه كان لا يلبس ثوبا إلا خرقه ولا يمشي إلا عاريا، ويلعب بالتراب، ويجمع العظام حوله، فإذا ذُكرت ليلى أنشأ يُحدِّث عنها عاقلا حاضر الذهن ولا يخطئ حرفًا. ويقال أنّه مرّ ذات يوم بزوج ليلى فسأله قائلا:

 

بربك هل ضممت إليك ليلى

قبيل الصبح أو قبلت فاها

وهل رفت عليك قرون ليلى

رفيف الأقحوانة في نداها

 

فأجابه زوج ليلى: اللهم إذ حلفتني فنعم. فأخذ قيس بيده قبضتين من الجمر وما زال ممسكا بهما حتى سقط مغشيا عليه وسقط الجمر مع لحم راحتيه.

أيضا ينضم لقائمة الشعراء الذين أصابتهم لوثة نفسية عقلية في آخر أيامهم الشاعر الكبير إدريس جماع الذي برهن - كما يقول محفوظ عابدين- أنّ الفرق بين الجنون والعبقرية (خيط رفيع) ويكاد الجميع يحفظ بيته (السيف في غمده لا تخشى بواتره وسيف عينيك في الحالتين بتار) وقصة الممرضة اللندنية التي أخفت عينيها خلف نظارتها اتقاء نظراته، كذلك يحفظون البيت الذي يصور مأساته وحالته الانفعالية تصويرا دقيقا:

 

إنّ حظي كدقيقٍ فوق شوكٍ نثروه

ثُمّ قالوا لحفاةٍ يوم ريحٍ اجمعوه

عظم عليهم الأمر ثم قالوا اتركوه

إنّ من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه

 

وربما أنضجت الحالة النفسية التي يمر بها الأديب منتوجا فكريا لم يتأتَ لشعراء أصحاء قط، فنازك الملائكة التي فاقت في التشاؤم شوبنهاور والتي ألجأها مرض الاكتئاب إلى المصحة النفسية قدمت إنجازات ستظل باقية في تاريخ الشعر العربي نظما وتنظيرا نقديا في أبرز كتابين لها "قضايا الشعر الحديث" و"سايكولوجية الشعر" وعندما سئلت عن مبعث الحزن والكآبة والتشاؤم الذي يغلب على شعرها، أجابت: "لعلَّ سبب ذلك أنني أتطلَّب الكمال في الحياة والأشياء، وأبحث عن كمال لا حدود له. وحين لا أجد ما أريد؛ أشعر بالخيبة وأعدّ القضية قضيتي الشخصية. يضاف إلى هذا أنني كنت إلى سنوات خلت اتخذ الكآبة موقفاً إزاء الحياة، وكنت أصدر في هذا عن عقيدة لم أعد أؤمن بها، مضمونها أنَّ الحزن أجمل وأنبل من الفرح".

ويعزو البعض تشاؤم وحالة نازك الملائكة إلى "حزن فكريّ" نشأ ملازما لها وكنتاج طبيعي لتفكيرها الدائم في الحياة والموت من جهة، وتأمُّل أحوال الإنسانية من جهة أخرى، ولعل سيمياء عنوان ديوان "عاشقة الليل" دلالة كافية على عزلة الشاعرة ورغبتها في التوحّد مع نفسها ومطالعة كتاب الأسى الخاص بها:

أوليست هذي الحياة سرابا

أوليس الفناء عقبى سناها

أو تُنجي الألقاب أو مِنحُ

المجد إذا ما الحِمام أحنى الجباها

كل ما في الحياة يُنهي إلى القبر

فما مجدها وما جدواها