"ثلاثُ خطواتٍ إلى المِشنقة" (1 – 2)


أ.د/ يوسف حطّيني | ناقد وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات


شعريّةُ السّردِ تنتصرُ على قسوةِ الواقع
أولاً ـ ما يشبه التمهيد:
"ثلاث خطوات إلى المشنقة"، للكاتب السوري جان دوست ليست رواية تاريخية، على الرغم من أنّها تتخذ حقبةً من تاريخ الأكراد في تركيا خلفيةً لها، وهي ليست رواية توثيقية، على الرغم من أنّها توثّق لوقائع وحوادث جرت في تلك الحقبة، وهي ليست رواية سيرة، على الرغم من احتفالها بطفولة الشيخ سعيد وفتوته وكهولته وشيخوخته، وهي كذلك ليست رواية أيديولوجية على الرغم من أنّ الأيديولوجية التي تدعو لها لا تخفى على القارئ أبداً.
هي رواية سيرية، تغلّف السماتِ التاريخية والوثائقية والأيدلوجية بأثر الفراشة، يكتبها المبدع كما ينبغي أن تُكتب: يقرأ السيرة والتاريخ، ويستوعب تفاصيلهما، ويدرك أبعادهما، ويحدد موقفه منهما، ثم يُدخل كلّ ذلك إلى مختبره السرديّ، ويُنشئ من مزيجه ـ بواسطة خلطة سرّية لا يدرك غيرُه أسرارها ـ سرداً روائياً يأخذ بالألباب.
تحكي هذه الرواية عن انتفاضة الكرد التي قادها الشيخ سعيد بن محمود بن علي بيران البالوي ضد الأتراك عام 1925، وأوصلته، كما أوصلت عدداً كبير من رفاقه إلى حبال المشانق. غير أنّ الكاتب الخبير لا يعرض الرواية علينا وفق تعاقبها الزمني، ولكنه يأخذ، ليبني الزمن الواقعي لروايته، فسحة زمنية صغيرة من حياة سعيد، تتلخص في الدقائق التي استغرقها في خطوات ثلاث: اثنتان تصلان به إلى المنصة، وثالثة يصعد بها الكرسي الموضوع تحت حبل المشنقة. وإذا كان الفصل المسمّى عتبة الخطى قد استهلك خمس عشرة صفحة؛ ليصل بالبطل من باب زنزانته إلى المشنقة، فإن بقية صفحات الرواية صورت كل نأمة وكل تفصيل وكل ذكرى خطرت لسعيد في طريق موته. وما دام المبدع قد جعل هذا التكثيف الزمني للزمن الواقعي خياره الفنّي، فمن الطبيعي أن يتلاعب بالزمن، ليمتد به إلى طفولة سعيد، ودراسته، وعشقه، وثورته التي رأى نفسه فيها زعيماً غير مطاع، دون أن ينسى وصف الطريق والخطوات والريح وأثر كل ذلك على الذّاهب إلى حتفه.
وإذا كان مكان الرواية السائد يبدو تركياًّ:؛ إذ تبدأ في بالو (مكان ولادة سعيد) وتنتهي في ديار بكر (بإعدامه شنقاً)، فإنّه يتجول قليلاً، لا في الأمكنة التي تنقل فيها سعيد وحسب، بل يصل إلى الأمكنة التي تحرّك فيها الذين أجهضوا حلمه (سيفر ولوزان: الفرنسيتان مثلاً). ويبدي الروائي اهتماماً لافتاً بالأمكنة: مدناً وقرىَ، ويؤثثها بالمساجد والساحات والحدائق والطرقات والأشجار والأنهار والينابيع، كما يؤثث شخصياته بأشيائها المميزة، من مثل كشكول خضر البوطي، ومسبحة الشيخ سعيد ومشطه وغليونه، ومنديله الذي أعطته إياه معشوقته بريخان، وبقي معه إلى أن صادره الجنود الأتراك، مع بقية أشيائه.
فإذا أخذنا المنديل مثلاً لتأثيث الشخصية (أرى أنّ الشخصية يمكن أن تؤثث بأشيائها مثل الأماكن) وجدنا أنّه يظهر في أماكن متعددة في السرد، وينيط به الروائي وظائف تطوير الحكاية، حتى لا يكون ظهوره مجرد ترف تزييني، ويمكن أن نورد سياقين سرديين يدللان على أهمية هذا المنديل في حياة سعيد، وتأثيره فيها:
•    "وذات صباح استيقظ من نومه، أخرج المنديل الأخضر؛ ليشمّه، كعادته كلما يستيقظ. وحين بسط المنديل رأى قليلاً من الكحل ممدداً في ثنايا المنديل كسطر من كتابة"، ص93.
•    "في مرات كثيرة كان خالص البدليسي خلال أيام الدراسة يخطف المنديل من جيبه، ويهرب إلى زاوية في المسجد، وينشد بصوت عال: أعطتني الحبيبة منديلاً..."، ص102.
ويشكّل المنديل جزءاً من خيبة سعيد؛ إذا إنه كان قد وعد بريخان ألا يستعمله إلا لتجفيف دموعه، ولكنه لم يستطع أن يمسح به دمعته الأخيرة؛ حيث صادره الجنود الأتراك، وأوثقوا يديه في طريقه إلى المشنقة.
ولا يغفل الروائي أن يفيد من العتبات النصيّة في تأثيث الفضاء الطباعي لروايته؛ فيورد نصوصاً، تسبق الفصول التي تحتل هذا الفضاء، لكلّ من الشاعر الجزيري، والشاعر أحمد الخاني، والحلاج والدريني وابن عربي وسليم بركات على التوالي؛ لينهي بعتبة أخيرة ينسبها إلى المتصوفة دون تحديد:
•    "ينهل الترك من الفرات والنيل/ أما أنا فأتجه إلى البحر ظامئاً"، ص23.
•    "القامة التي وقعتَ في غرامها مشنقتُكَ/ وخصلة شعر الحبيبة صنّارة قلبك"، ص69.
•    "ثلاث خطوات توصلك إلى الله: بخطوة تترك الدنيا، بالأخرى تترك الآخرة، وبالخطوة الثالثة تصل"، ص113.
•    "مشيناها خطى كتبت علينا/ ومن كتبت عليه خطى مشاها"، ص145.
•    "الظل راحة ما وراء الحجب"، ص161.
•    "أأبوح لكم كم خدعني الجيران؛ لأدخل هذا السباق"، ص177.
•    "الخيال أصل الموجودات"، ص219.
فإذا نظرنا إلى تلك العتبات وجدناها تناسب الفصول التي تتبعها، بل تشكّل نصّاً موازياً لها، فالظمأ الذي ذكره الجزيري يشكل إيقاعاً طاغياً في البداية، والقامة التي يتحدث عنها الخاني تشد السرد إلى قامة بريخان المعشوقة الخالدة، والوصول إلى الله عبر الخطوات حاضر في الفصول التالية، والخيبة التي عاينها الشيخ سعيد حضرت في مفتتح سليم بركات السردي، والنقلة الصوفية من الحضور إلى الخيال تمّ التقديم لها بما يناسبها، ويخلق الأجواء التي تحلق فيها.
ثانياً ـ الاستذكار لعبة الرواية:
يخيّل إلى أن التلاعب بالزمن السردي هو ما يحدد، بشكل رئيسي، مدى نجاح الرواية الحديثة، وأنّ السرد التعاقبي ولّى، كما يخيّل إليّ أن ربط الرواية زمنياً بتغطية أجيال وحقب عفّى عليه الزمن. والروائي الحديث الذي يُدرك طبيعة فنه كثيراً ما يعمل على اختصار الزمن الواقعي للرواية في أيام، أو يوم، أو ليلة، أو ساعات، أو ساعة، أو دقائق؛ ليتيح للنفس أن تقول ما لديها، فتنتج أمثلة عن رواية اللاوعي وعن الرواية النفسية وعن رواية النوسالجيا وغير ذلك.
في حضرة رواية "ثلاث خطوات إلى المشنقة لـ "جان دوست"يتكثف الزمن الواقعي إلى أقصى حدود التكثيف، إذ نقرأ، في الصفحة التاسعة عشرة، السياق السردي التالي:"لم يبق بين الشيخ وحبل مشنقته سوى ثلاث خطوات: خطوتان إلى المنصة، ثم خطوة ثالثة وأخيرة إلى الكرسي الموضوع تحت الحبل"، ص19. وهنا تبدأ لعبة الزمن الذي ازداد تكثيفاً؛ حيث يرغب الشيخ أن يسترجع شريط حياته مرتباً، غير أن للسرد رأياً آخر: "رغب أن يستحضر الذكريات الأهم ويرتبها في خياله، لكنّ خياله كان يميل كالسكارى يقدّم رجلاً ويؤخّر رجلاً، ثم ينطلق سريعاً كانه جواد، ويترك السنوات تضيع في عبار حوافره"، ص43. ها هنا أضحت كل ثانية مفتاح حدث جديد، وكلّ حدث مفتاح ذكرى، حتى حبل المشنقة الذي يلامس وجه الشيخ يرمي "حجرَ ذاكرته صوب نهر سنواته التي كانت تمضي إلى نهايتها"، ص142.
في الطريق إلى المشنقة تبعثر الأنسام شعرات لحية الشيخ البيضاء، فيتذكر مشطه: "كان مشطاً دقيق الأسنان بنيّ اللون، أحضره له والده ذات مرة من مدينة أرضروم"، ص31، ويتذكر عمر فارو وحكايات الثورة والتبغ، حين يسقط مبسم الغليون الذي كان يخفيه تحت حزامه: "فضّ صوتُ ارتطام ذلك المبسم بالأرض في تلك العتمة الشديدة بكارة الصمت"، ص64. وإذ يتأمل سعيدٌ جسد الشيخ علي الجاني، وهو يتأرجح بتثاقل، يتذكّر معاهدة لوزان التي تنكر فيها الفرنسيون للكرد، بعد وعود "سيفر". هكذا من غير ترتيب تقفز الذكريات تارة إلى طفولته، وطوراً إلى فتوته وكهولته وشيخوخته؛ حيث تكون لحظته الحاضرة متّكأ للاستذكار، على نحو ما نرى في السياقات التالية:
•    "قال الشيخ لنفسه وهو يحدّق في سماء خالية: حين كان طفلاً يافعاً، أضجر والده بالأسئلة:
ـ كيف هو الله؟
ـ الله كبير يا ولدي.
ـ هل هو أكبر من السلطان؟"، ص23.
•    "أما المشانق فقد ذكرته بالأشجار التي تسلقها، بأنواع الخشب التي رآها، ولمسها بيديه، بالمنابر التي اعتلاها، بالطاولات والكنبات في بيوت البيكوات والباشوات، ذكّرته تلك المشانق بصناديق العرس التي رآها تُحمل على صهوات الجياد في الأعراس...."، ص54.
•    "كانت قامتها فارعة لطيفة كهذا الحبل الذي أمامي"، ص69.
في الاستذكار الأخير يعود الضمير (ها) على خادمة منزلهم بريخان؛ ففي مواجهة حبل المشنقة الذي أمامه يتذكّرها، ويتذكر حكاية عشقهما التي انتهت نهاية فاجعة بسقوطها في البئر. إنها بريخان التي أطاحت عيناها "كل بيادر الطفولة المنسية في قلبه"، ص71.  غير أن قامتها التي نبتت في ذاكرته مثل حرف الألِف سرعان ما تقطعها ألِف أخرى تجلّت أمام ناظريه على هيئة حبل مشدود ينتظر رقبته. وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، وفقاً لخيار جان دوست الفني، فقد استدعى حبل المشنقة وقامة بريخان المنتصبان مثل الألِف، تلكَ الألِفَ الموغلة في الزمن، الألِفَ التي تعلمها سعيد ذو خمس السنوات من أبيه؛ ليعود من ثم إلى الحاضر:
"الألِف حرف جميل.
كان يقول لأبيه دون أن يخطر على باله أنه سيقفُ في آخر يوم من حياته أمام حبل يتدلّى كحرف ألِف من مشنقة. عادت حياته إلى النقطة التي بدأت منها. من ألِف البداية إلى ألِف النهاية"، ص73.
على أنّ المرء يلاحظ ملاحظة مطّردة في انتقال جان دوست من سرد واقعي إلى سرد استذكاري، أو العكس، هي اتكاؤه على المفردات؛ إذ تغدو المفردة جسر انتقال من زمن إلى آخر. بهذا تكون اللغة أهم مفتاح بنائي من مفاتيح الاستذكار، فإذا ذكر (الأنا الساردُ) عمامته التي مالت أمام المشنقة، تذكرَ والده الشيخ محمود الذي لف له العمامة أول مرة، ووضعها على رأسه قائلاً: يا بني إن العمامة تاج العالِم، لكن عليك أن تعلم أنّ الأهم هو ما في رأسك"، ص31
وإذ استذكر حكاية أمه عن خطواته الأولى وكيف ربطت قدميه بخيط واهٍ احتفالاً بالمناسبة، انتقل إلى الحاضر مستنداً إلى مفردات اللغة نفسها: "اليوم سيلتف الخيط على رقبتي، لا على عنقي"، ص24. وهكذا دواليك، حتى في أشد لحظات عمره رومانسيةً مع بريخان، فإنه ينتقل من حضنها إلى حضن الموت اعتماداً على المفردات:
"وأنا احبّكَ أيضا.
ثم غادرت حضنه بسرعة وخوف.
كاد الحبل المتدلّي أمامه يقع في حضنه"، ص99.
نذكر هنا أنّ مثل هذه اللغة تفترض توازياً مجازياً استعارياً بين حدثين، على نحو ما نجد في بداية الفصل المسمى "الخطوة الأولى"؛ إذ يوحي الروائي (والسارد) للقارئ بأنه سيتحدث عن الخطوة الأولى نحو المشنقة، غير أنّ السرد يرتدّ زمنياً إلى أول خطوة في حياة الشيخ، ويوازي بذكاء بين الخطوات التي ارتدّ إليها الشيخ والخطوات التي تنتظره نحو حتفه، وفي هذا السياق نقرأ حديث والدته، وهي تروي له سيرة خطواته الأولى نحو الحياة، وكأنه تروي له في استباق متقن خطواته نحو الموت: "كنت واقفاً على قدميك مثل سنجاب مذعور قبل أن تخطو الخطوة الأولى (...) ومع الخطوة الثانية ازداد خوفك. وبعد أن خطوت الخطوة الثالثة تسمّرت في مكانك"، ص23.
وكثيراً ما يقفز السرد من الذكرى إلى الواقع، إذ تكسر قسوةُ الواقع جمالَه، وتعيد الشيخ مرغماً إلى ما هو فيه، فالزلاجات التي يتزلج الأطفال على الثلج بوساطتها تعيده إلى الحبل المنتصب أمامه على مسافة كلمة، ولحظة من خيال: "استأجر المريدُ الذي كان يرافقه زلّاجة، وأركبه عليها، ثم ربط الحبل على خصره، وصرخ يا سيدي شاه نقشبند، ثمّ جرّه وراءه.
ما أشبه هذه المشانق بتلك الزلاجات! سنتزلج عليها في طريقنا إلى الموت"، ص45.
ويبلغ السرد مداه في القدرة على التلاعب بالزمن، حين يزاوج بين الماضي والحاضر منتقلاً بينهما ببراعة، على نحو ما نرى في هذا السياق: "هبّت نسمة رخيّة هزّت الحبل، فتذكّر جديلة بريخان التي كانت تهتز على كتفيها مثل جدول من الذهب. كانت تلك الجديلة تنسلتُ بسبب مشيتها السريعة من تحت المنديل، وتهتزّ يميناً ويساراً مثل ذلك الحبل المنسلت من تحت منديل ليل ديار بكر الأسود في تلك الساعة المتأخرة من الليل"، ص103.
غير أن بريخان التي تغادره إلى "الأبد"، تظهر فيما بعد "الأبد" خيالاً يلهمُ خياله الذي غادر عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فبعد أن فاضت روحه على حبل المشنقة، اختفت المشانق من أمامه مثلما اختفى الجنود، وظهرت بريخان من جديد: "كانت تبتسم. تقدّمت خطوة إلى الأمام، فطار الظلام من تحت قدميها كسرب من الغربان"، ص221.
في مقابل الاستذكار تنهض تقنية الاستباق التي تصوّر لحظة لاحقة زمنياً للحظة السرد. وكما هو الشأن في الرواية العربية عموماً فإنّ ظهور هذه التقنية السردية يقل ويندر في رواية جان دوست، ويمكن أن نقرأ من نماذجه القليلة ما يلي:
"الحياة تستحق أن يعيشها المرء بعيون مفتوحة حتى الثانية الأخيرة. سوف أتابع حركة النجوم، سأرى الفجر الذي يوشك أن يولد، سأرى قامات أولئك الأبطال من المشايخ وهي تتدلى من المشانق، سأكحّل عيني بأرواحهم الطاهرة، سأسمع كلماتهم الأاخيرة قبل الموت، سأرى النجوم التي تقاوم. سأنظر كذلك في عيون الجنود وهم يستمعون إلى الحشرجات الأخيرة للمشنوقين"، ص30.
حتى إنّ الاستباق ذاته يبدو مشدوداً إلى الاستذكار بحبل متين؛ فحين يستبق (الأنا الساردُ) الحدثَ بساعتين في قوله: "بعد حوالي ساعتين سيرفع مؤذن مسجد بهرام باشا أذان الفجر. لكني لن أسمعه، لن أصلي الفجر للمرة الأولى في حياتي"، ص26. لا يكتفي بالعودة إلى الحاضر، بل ينطلق إلى الماضي معرّجاً على حكاية مؤذن مسجد علي باشا الذي أذّن فرحاً بقدوم الثوار: "صباحاً قتل الجنود الأتراك ذلك المؤذن طعناً بالحراب.  قالوا له وهو بين الحياة والموت: هيه يا شيخ. قم أذّن.
ثم غرزوا آخر حربة في حنجرته"، ص27.
وإمعاناً من السرد العربي التوّاق للارتداد الزمني، ينطلق السرد في السياق الذي يليه إلى استذكار آخر: "حين كان في السابعة من العمر طلب منه والده أن يؤذن"، ص27. وكأنّ الماضي المستذكَر قدر السّرد الروائي العربي.

 

تعليق عبر الفيس بوك