الجزائر بين صراع العُرف والقانون

 

علي بن مسعود المعشني

لكل دولة على وجه الأرض تقاليد في الحكم وأعراف لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها؛ وهذه التقاليد والأعراف أصبحت بحكم التقادم في التاريخ وبحكم الرسوخ في الوجدان الشعبي والعقل الجمعي كالمسلمات التي لا يجوز الحديث عنها أو المساس بها. والعرف في التعريف اللغوي والقانوني هو ما تعارف عليه الناس وارتضوه وأصبح من نسيجهم الاجتماعي والفكري، ومما استقر في عقلهم الظاهر والباطن. دولة كبريطانيا تحكمها الأعراف والتقاليد الملكية والملك أو الملكة هو رئيس الكنيسة الإنجيلية وبريطانيا ملكية دستورية أي أنّ الملك يملك ولا يحكم فالحكم برلماني بيد الشعب، هكذا يُعرِّف القانون الدستوري الملكية الدستورية، ورغم هذا فبريطانيا دولة تسيّرها الأعراف وليست القوانين، والملك الذي يقال ويُشاع عنه بأنّه يملك ولا يحكم، يستقبل كل رئيس حكومة جديد قبل مزاولته لسلطاته ويوجهه ويُفهمه الخطوط الحمراء والصفراء والخضراء، ويبقى هذا اللقاء بين الملك ورئيس الحكومة في العرف البريطاني من أسرار الأمن القومي ولا يجوز الحديث به أو عنه أو الإفصاح عنه جملة أو تفصيلًا تلميحًا أو تصريحًا. وفوق هذا ما يجهله الكثيرون أنّ الملكيّة الدستورية في بريطانيا تخوّل الملك وحده بالعرف الموازي لقوة القانون بإعلان الحرب وإقرار السلام، وتكليف السفراء والمبعوثين للتاج الملكي البريطاني واعتماد السفراء الأجانب ومنح الأوسمة وحل الحكومة وحل البرلمان لدواع الأمن القومي ومقتضيات المصلحة العليا للبلاد.

في أمريكا ينص الدستور الأمريكي على حق كل أمريكي في الترشّح لرئاسة البلاد ثم يأتي القانون نفسه ليفصل تعريف من يحق لهم الترشح للرئاسة فيفصل ما بين مواليد أمريكا وما بين المهاجرين إليها، لهذا لا يحق للمهاجرين من أمثال هنري كيسنجر أو بريجنسكي أو مادلين أولبرايت أو كونداليزا رايس أو مارتن إنديك الترشّح للرئاسة كونهم لا يحملون الجنسية الأمريكية "الأصلية" والتي يعرفها قانون الجنسية الأمريكية والدستور الأمريكي، ثم يأتي العُرف الأمريكي ليفصل في الأمر ويجعل الأفضلية في رئاسة أمريكا للبروتستانت حصرًا دون غيرهم وأن تكون جذور الرئيس من إيرلندا أو أسكتلندا أو إنجلترا ثمّ من أوروبا عامة، لهذا لم يشذ عن هذا التصنيف الديني في تاريخ أمريكا سوى الرئيس جون كينيدي والذي كان أول وآخر رئيس أمريكي كاثوليكي.

أعراف وتقاليد الحكم في مملكة تايلند تعتبر الملك ذاتا مقدسة لا يجوز النيل منها أو الحديث بسوء عنها، لهذا تقع الانقلابات العسكرية في تايلند على رئيس الحكومة، ويتدخل الملك في اللحظة الحاسمة ليفصل في النزاع ما بين أطياف الحكومة أو الحكومة والشعب ويكون قرار الملك نافذا على الجميع ولا طعن فيه أو رجعة له.

وفي الأقطار العربية نجد أنّ أغلب الحكام العرب ممن تعاقبوا على الحكم في دولة الاستقلال العربي من خلفيات عسكرية، بل ونجد أنّ أقطارًا عربية كمصر والجزائر أصبح من العرف السياسي فيها أنّ الحكم للعسكر، ففي مصر المعاصرة تعاقب كل من الزعيم جمال عبد الناصر ثم أنور السادات ثم حسني مبارك ثم السيسي اليوم وجميعهم من خلفيات عسكرية. في جزائر الاستقلال تعاقب العسكريون على الحكم بدءا من المناضل أحمد بن بيلا أول رئيس للجزائر بعد الاستقلال (62 - 1965م) وهو من رموز الثورة وكبار قادتها التاريخيين ومن رموز النضال العسكري والسياسي وأحد الضباط الجزائريين في الجيش الفرنسي قبل اندلاع ثورة نوفمبر التحررية، تلاه الزعيم هواري أبومدين (محمد بوخروبة) (651979م) وكان رئيسًا لأركان جيش التحرير الجزائري ثم وزيرًا للدفاع بعد الاستقلال، ثم الرئيس الشاذلي بن جديد (791992م) والذي كان مناضلًا في صفوف الثورة ومن كبار قادة الجيش الوطني الجزائري في دولة الاستقلال، وبعد استقالة الرئيس الشاذلي تعاقب على الرئاسة كل من الرؤساء : محمد بوضياف (1992م) وهو مناضل كبير ومن رموز الثورة وكبار قادتها، وخلفه علي كافي ( 9294م) ثم اليمين زروال (941999م) وكلاهما مناضلان ومن كبار قادة الجيش الوطني الجزائري.

عرفت الجزائر خلال الفترة ما بين عامي (921999م) ما سٌميت بالعٌشرية السوداء الدموية والتي انشغلت خلالها المؤسسات الأمنية والعسكرية بمواجهة الإرهاب وكانت خلالها العُهد الرئاسية أقرب إلى ملء الفراغ الدستوري من الرئاسة الفعلية والتي كانت تحت سيطرة الجيش وأجهزة الاستخبارات لدواعٍ أمنية.

 يمكن وصف عُهد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة منذ عام 1999م ولغاية اليوم بأنّها العُهد الاستثناء من قواعد وأعراف الحكم في الجزائر. فرغم السجل النضالي لأبو تفليقة وخبراته كرجل دولة منذ السنوات المبكرة لدولة الاستقلال كوزير للشباب والرياضة عام 1963م ثم وزيرًا للخارجية (631979م) إلا أنّه ليس من خلفية عسكرية، فهناك فئة المناضلين ممن حملوا السلاح والرتب العسكرية وهناك فئة المناضلين من ذوي الخلفية العسكرية الأكاديمية في زمني الثورة والاستقلال. يضاف على هذا أنّ الرئيس أبوتفليقة قد يكون أخل بعرف آخر للحكم في الجزائر كونه والذي كان حكرًا في أبناء الشرق أو ما يٌعرف شعبيًا بمثلث (بي. تي. أس) وهو اختصار للمناطق: باتنة، تبسة، سوق أهراس كون بوتفليقة من غرب الجزائر. هذا الصراع الأساس وغير المُعلن هو غطاء لجملة من مشكلات الجزائر المعيشية المُرّحلة للأسف، ولعقود خلت وعلى رأسها أزمتا البطالة والسكن. فالجزائر التي بلغ تعداد سكانها (40) مليون نسمة يشكل ما يزيد على (%71) منهم تحت سن الثلاثين عامًا، وهذا المجتمع الفتي وقوة العمل الفائقة تحتاج الى إدارة استثنائية وتوظيف حقيقي للنهوض بالوطن في كافة المجالات.

في أواخر ثمانينيات القرن الماضي صٌنفت كل من العراق والجزائر من أقطار الوطن العربي كأقطار تمتلك من المقومات المتناغمة الطبيعية منها والبشرية والجغرافية للخروج من العالم الثالث واللحاق بالعالم الثاني، حيث يتمتع البلدان بثروات نفط وغاز وزراعة ومنظومة تعليم وعدد سكان متوازن مع مساحة البلاد. لهذا السبب أُستهلك النموذج العراقي في حربه مع إيران وما تبقى منه أحرق في غزو الكويت، وأدخل النموذج الجزائري في أتون حرب إرهابية أشبه بالأهليّة لعقد كامل. وتسببت تلك الكوارث للبلدين في مقتل وهجرة عقول وكفاءات نادرة وبأعداد كبيرة الى بلدان الغرب وهو جزء من المخطط وأحدثت فجوة علمية ومعرفية هائلة فيهما تسببت في تخلف وتراجع التنمية والبُنى التحتية بصور ملحوظة ومؤثرة.

الجزائر اليوم لا تزال للأسف تحت مجهر الربيع الغربي ومن ضمن المخطط التالي له وما تأجل منه ليس تناسيا من رعاته بل لإكراهات الواقع التي عاشها ربيعهم في سوريا وتكشُّفه؛ الأمر الذي جعل من الجزائر هدفًا مؤجلًا فقط لا غير.

حراك الانتخابات الرئاسية وسجال الطيف الجزائري بشأنه لا زال تحت السيطرة ووطني بامتياز ولكن الخشية من تطور الأمور وفقدان السيطرة وتهيئة المناخ للاصطياد في الماء العكر وإدخال الجزائر مجددًا في نفق ظاهره رحمة وباطنه عذاب.

قبل اللقاء: العدو لا يتسلل عبر الحدود دائمًا بل عبر العيوب في كثير من الأحيان.. وبالشكر تدوم النعم.