لن أجامل يا وطني (2)

 

د. عبدالله باحجاج

هل سيكون المركز الوطني للتشغيل بهيكليته المُعلنة، من حيث أطره واختصاصاته وفلسفة الشراكة الثنائية بين القطاعين العام والخاص، واستعانته بأطر أمنية وعسكرية ومن قطاعات أخرى، في مستوى تحديات قضية الباحثين عن عمل؟ هل يُمكن القول وداعًا للسنوات الطويلة التي ينتظر فيها الباحث عن حقه في العمل؟

هذان التساؤلان يتصدران الآن الاهتمامات الاجتماعية عامة والباحثين عن عمل خاصة، لكن هذه الاهتمامات استقبلت 2020 كفترة عمل رسمية للمركز بشيء من التَّحفظ، لأنها كانت تتأمل الفورية التي تنتج وقائع ملموسة. وهذا التحفظ مُقدر، وأسبابه معروفة، ويحظى بتقدير عالٍ لأننا في قضية تعاني من تراكم عددي كبير، لا يُمكن لأية جهة رسمية أن تحددهم بالأرقام على وجه الدقة، وهنا مكمن القلق الكبير من الرقم المجهول خاصة إذا ما تزامن مع أي تأخير زمني للحل، ورغم أنه من السابق لأوانه التوغل في عُمق المركز بعد صدوره بمرسوم سلطاني يوم الخميس الماضي، لكن من الواضح أنَّ نتائجه ستكون ذات آجال متوسطة وطويلة، قد يكون وراء ذلك تفهم من حيث تغليب الجوانب العلمية والبحثية في عمل المركز، لكن ماذا عن الفترة الزمنية التي يترقب فيها كل باحث عن عمل فرصته بفارغ الصبر؟

وهي فترة زمنية نقسمها إلى مرحلتين، الأولى من 2019 إلى 2020، أي قصيرة الأجل، ومن 2020 حتى وضع برنامج متوسط الأجل محدد (5) سنوات، وطويل (10) سنوات أو أكثر من أجل عملية إحلال العُمانيين محل الوافدين، وهذه فترات هواجسها مُرتفعة، لكن تظل مرتبطة بالتطبيق أكثر من التنظير، بل حتى المركز نفسه بكل ما فيه من أفكار إيجابية سيكون الرهان عليه مرتبطًا بالتنفيذ، فهذه الأخيرة لنا معها تاريخ طويل غير إيجابي، والتطبيق مرتبط بالأطر والكوادر، وبآليات ومكيانزمات صراعاتها الإيجابية من أجل تحقيق أهدافه، وإذا ما توفر ذلك، فستظهر فوق السطح مشكلة أكبر وهي عدم تجاوب القطاع الخاص.

ولتوضيح الجزئية الأخيرة من التحديات، دعونا نتأمل في تجربة الصندوق الوطني للتدريب الذي تم إنشاؤه بالمرسوم السلطاني رقم 48/2016، ونفتح ملفه بكل موضوعية وشفافية إذا ما أردنا أن نقف على الأسباب الحقيقية التي تُعرقل جهود الدولة في التعمين والإحلال والتوظيف، والتأكيد على أن أصل المشكلة في بلادنا يكمن في التطبيق بعد أن تتبنى السلطة السياسية أفكاراً رائعة ومثالية وقابلة للتطبيق.

فمجلس إدارة الصندوق يرأسه معالي الدكتور وزير النفط والغاز، ومن حيث المبدأ، فإنَّ هذا يعني أن نجاح الصندوق مضمون بمستوى هذه الرئاسة، على الأقل من حيث الإحلال، ومن بين أهم أهدافه، السعي لبناء قدرات الموارد البشرية العمانية، وتجسير الفجوة بين المخرجات التعليمية واحتياجات سوق العمل، وتحديد أولويات التدريب واحتياجات سوق العمل، وبناء بيئة معلوماتية شاملة لدعم التدريب، وتمويل البرامج التدريبية التي تتلاءم مع الرؤية الوطنية والقطاعات ذات الأولوية.

فهل نجح الصندوق في تحقيق أهدافه بعد مرور ثلاث سنوات من إنشائه؟ سنؤجل الإجابة قليلاً، فهناك تساؤل كبير ينبغي طرحه هنا، وهو هل سيأتي المركز الوطني للتشغيل متناغمًا ومنسجمًا مع أهداف الصندوق الوطني للتدريب أم متعارضاً أو متداخلاً في صلاحياته خاصة وأن عملية التدريب من صلاحيات الصندوق والمركز معًا؟

مول الصندوق تدريب 6175 شاباً وشابة، وقد أهلهم لسوق العمل في الشركات من أجل الإحلال. مصادرنا أفادت بأنَّ الشركات في بلادنا ترفض توظيفهم سواء إحلالاً أو تعيننا، لماذا وقد انتفت حجية الشركات التي تلوح بها دائمًا، وهى عدم أهلية شبابنا للاندماج في سوق العمل؟ لأنَّ التعليم في بلادنا غير منتج لطاقات بشرية جاهزة للعمل فوراً، والآن ما موقفها بعد أن انتفت حجتها؟ هذا يظهر لنا أنَّ القضية ترجع إلى تفضيل الشركات للأجانب على المواطنين لاعتبارات كثيرة.

والتساؤل الذي يطرح هنا، عن خطوة الصندوق التالية بعد رفض الشركات قبول المؤهلين من أبنائنا؟ وهو التساؤل نفسه الذي سيواجه المركز الوطني للتشغيل، ربما يكون لدى الصندوق خيارات أفضل لو تمَّ استغلالها، فالرمحي كوزير يُدير قطاع النفط والغاز والشركات النفطية في البلاد، وله علاقات فوقية وتحتية مؤثرة جدًا، فإذا لم يتمكن هو من إقناع الشركات، فهل سيتمكن المركز من حمل اللوبيات على الإحلال؟ تظل الكرة في الملعب السياسي حالياً ومستقبلاً.

وقد شهدت مسقط مؤخراً جلسات عصف ذهني استضافتها إحدى مؤسسات الدولة رفيعة المستوى، توسعت فيها النقاشات، وقدمت مرئيات جريئة، أبرزها، حل إشكالية تضارب المصالح في البلاد، وتأثيرها السلبي على قضية الباحثين عن عمل، تزامن معها، مرئيات مجلس الشورى بشأن القضية نفسها، والتي طالبت بعودة راتب الباحثين عن عمل في إحساس منهم بثقل القضية، وحتمية انفراجها الآني بحلول تخفف من وطأتها.

لذلك، نرى أن بلادنا لن تنقصها الأفكار الرائعة، وهي منتجة لها على الدوام، لكن الإشكالية تظهر في كيفية بلورتها على صعيد الواقع، لذلك لابد من تدخل السياسة عبر عقد جلسة حوار بمُباركة وتحت إشراف المؤسسة السلطانية، أطرافها أصحاب الشركات الكبيرة مع الصندوق الوطني للتدريب والمركز الوطني للتشغيل، وترفع نتائجها للمقام السامي، على أن تفعل الرقابة عليها من قبل مجلس الشورى وجهاز الرقابة المالية والإدارية، وترفع أولا بأول إلى المؤسسة السلطانية، لكن هذا المسار سيكون مرتبطًا بحل إشكالية ازدواجية المصالح التي أوصت عليها جلسات العصف الذهني، فالوزير أو المتنفذ المتمصلح، كان ولا يزال العائق الأكبر في تحقيق أجندة الوطن الكبرى، ولابد من حل سياسي لهذه المعضلة.

ينتقل هاجسنا الأكبر الآن نحو تطبيق الأفكار الجديدة في إطار المركز الوطني للتشغيل بعد ما فشلت الكيانات الرسمية في قضية الباحثين عن عمل، فشلت في بياناتها سواء عن القطاع الخاص أو عن أعداد الباحثين عن عمل، فالأرقام عن القطاع الخاص مضللة، وأعداد الباحثين أقرب للاجتهاد الخادع، وأغرقت القضية في أتون متاهات حسابية.

إن هذه القضية لن تقبل المجاملة، ولن نجامل، لأنها تتعلق بديمومة استقرارنا وأمننا، لذلك نقول دائماً إن النجاح المنشود يحتاج لقيادة جديدة متجردة من منافعها الشخصية، وغير معنية بتحقيق مصالح فئوية جاءت بها للمناصب بمرتبات عالية فقط، وفي الوقت ذاته تحتاج لمظلة سياسية عالية لحمل القطاع الخاص على الاستجابة لتوجهات المركز حتى لا تتكرر تجارب لم تحقق أي نجاح.