الحرف العُمانية وحماية الهُوية

حاتم الطائي

 

 

حماية الهوية الوطنية من بين فوائد وإيجابيات كثيرة لدعم الصناعات الحرفية

عرض المنتجات الحرفية في المواقع السياحية يُعزز الجذب السياحي للسلطنة

نناشد المسؤولين عن كلية الأجيال أن تتسارع الخطى لافتتاح هذا الصرح الأكاديمي

 

 

 

يحظى قطاع الصناعات الحرفية بالكثير من الدعم السامي لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المُعظَّم- حفظه الله ورعاه- من منطلق إيمان جلالته بدور الموروث العُماني في الحفاظ على الهوية الوطنية، ولذا تحتفل السلطنة في الثالث من مارس من كل عام باليوم الحرفي العُماني، للتأكيد على ما تحظى به الصناعات الحرفية من مكانة رفيعة لدى المقام السامي وفي نفوس المُجتمع العُماني.

والحرص السامي على إيلاء هذا القطاع العناية والرعاية يُبرهن على مدى الاعتزاز والفخر بما نملكه نحن العُمانيين من مقومات حضارية وثقافية لا تتوافر لدى الكثير من الأُمم، ولا أدل على ذلك من تنوع المُنتجات الحرفية، في وقت تكستح فيه مخرجات الثورة الصناعية الرابعة شتى مناحي الحياة، وابتكار منتجات جديدة مواكبة لهذا التغير التقني الهائل، وهو ما يُهدد بالفعل الموروثات الحرفية حول العالم، ونحن، وقد شهدنا في عدة دول أنَّ بعض المنتجات الحرفية كانت تلقى في وقتٍ من الأوقات رواجًا هائلاً، لكنها الآن تُكافح من أجل البقاء ولو بنسب ضئيلة للغاية مُقارنة مع ما سبق، وهذا يأتي في إطار التحديات التي تواجه قطاعات عدة، ومنها قطاع الحرفيات.

الدعم السامي الذي نُشير إليه تمثل في الكثير من المواقف، أهمها على الإطلاق تخصيص جائزة تحمل اسم جلالة السُّلطان المُعظم للمجيدين في العمل الحرفي، وهي جائزة السلطان قابوس للإجادة الحرفية، والتي تمنح لأصحاب الإبداعات والابتكارات الحرفية المُتميزة كل سنتين، وتُعد أرقى وأسمى جائزة في هذا المجال، ويشمل ذلك الدعم السامي أيضاً إنشاء الهيئة العامة للصناعات الحرفية في عام 2003، والتي تُعد الآن الحاضنة المؤسساتية للقطاع الحرفي والنافذة التي من خلالها يتم تقديم أوجه الدعم والرعاية، وأيضاً المؤسسة المسؤولة عن تنظيم العمل الحرفي ووضع آليات العمل الكفيلة بإنجاح القطاع، إلى جانب مهام وأدوار أخرى منها تنفيذ مختلف برامج التطوير والتأهيل للحرفيين، وتعزيز إسهام الصناعات الحرفية في الاقتصاد الوطني، ودعم مُشاركة الحرفيين في شتى المعارض المحلية والإقليمية والدولية. الدعم السلطاني يتجلى كذلك في تخصيص مبالغ الدعم المادي اللازم للنهوض بأوضاع الحرفيين، بجانب الدعم المقدم سنوياً للحرفيين في مختلف تخصصاتهم، وتوجيه مؤسسات الدولة والقطاع الخاص إلى تقديم سُبل الدعم والتحفيز للقطاع الحرفي. والمقصود بالدعم هنا ليس فقط الدعم المادي، بل أيضاً الدعم المعنوي والأدبي للحرفيين، عبر صور متنوعة، مثل المسابقات المتنوعة والجوائز، وتسليط الأضواء الإعلامية على الحرفيين، وافتتاح المعارض والمنافذ التسويقية لهم، وتحفيز مُختلف المؤسسات على شراء المنتجات الحرفية.

وهناك العديد من الفوائد والإيجابيات المُتحققة من دعم الصناعات الحرفية، أولها حماية الهوية العمانية، وهذه الهوية على الرغم من تجليها في الكثير من جوانب الحياة، إلا أنَّ الصناعات الحرفية واحدة من أبرز صور الحفاظ على هذه الهوية، عبر مواصلة الاهتمام بالموروث العماني الأصيل وتوظيفه في مختلف الاستخدامات، سواء كان ذلك عبر استخدام المُنتجات الحرفية في أعمال الديكور والزينة، أو استخدامها في جوانب حياتية عملية، فالأزياء العمانية التراثية لا تزال النساء والفتيات ترتدينها في المناسبات الوطنية وحفلات الزفاف وغيرها من الفعاليات، وأيضاً استمرار ارتداء النساء للحُلي العُمانية. ومن بين الاستخدامات العديدة للمنتجات الحرفية في حياتنا اليومية، أنه لا يخلو بيت عُماني من "المندوس"، بمختلف أشكاله البديعة، فضلاً عن المنتجات الأخرى مثل الخواتم والحلي والخنجر العُماني والمنتجات الفخارية والأواني، وغيرها.

ولا شك أنَّ الدعم المُقدم للصناعات الحرفية لا يتوقف عند الجهود المُقدَّرة التي تبذلها الهيئة العامة للصناعات الحرفية وعلى رأسها معالي الشيخة رئيسة الهيئة، بل إنَّ مؤسسات الدولة الأخرى ذات الشأن قد بادرت وسعت إلى الإسهام في هذا الجانب، وأشير بالتحديد هنا إلى الدراسة التي أعدتها لجنة الثقافة والإعلام والسياحة بمجلس الدولة حول "التحديات التي تواجه الحرف التقليدية وسُبل مُعالجتها"، والتي أقرها المجلس منتصف العام الماضي، واستهدفت مُراجعة التشريعات المنظمة للحرف التقليدية، والاطلاع على ما تنفذه المؤسسات المعنية بالصناعات الحرفية من سياسات وبرامج داعمة للقطاع ومنتسبيه، إضافة إلى رصد مدى إسهام الصناعات الحرفية في الناتج الإجمالي المحلي وسُبل تعزيزه، مع بحث إمكانية تطوير الصناعات الحرفية مع احتفاظها بأصالتها وجودتها.

وللصناعات الحرفية دور في توفير الوظائف، ورغم أن هذا الدور لا يزال محدوداً إلى الآن نظراً لأنها مهنة تتوارثها الأجيال كابرا عن كابر، بيد أنَّه من المؤمل أن تُسهم هذه الصناعات الحرفية في خلق وظائف جديدة، خاصة إذا ما تمَّ توظيف المُنتجات في دعم تنشيط قطاعات أخرى، مثل القطاع السياحي. فعرض المنتجات الحرفية في المواقع السياحية والأسواق الحرة في المطارات، من شأنه أن يُعزز الجذب السياحي للسلطنة، ويعود بالربحية على الحرفيين، الذين يبدعون في إنتاج مصنوعات حرفية تلقى رواجًا لدى السياح والزائرين وحتى المواطنين. لكن من المؤكد أنَّ عدد الحرفيين المُسجلين لدى الهيئة العامة للصناعات الحرفية البالغ عددهم 21557 حرفياً حتى نهاية عام 2018، يُمكن أن يزداد لما هو أكبر من ذلك الرقم، إذا ما أضيفت لهم أعداد أخرى قادرة على تعلم الحرف والقيام بالمهام التسويقية وعرض المنتجات في العديد من المنافذ، أو من خلال تأهيل أبناء الحرفيين للعمل في القطاع السياحي، إذ لن يكون هناك شخص أجدر من الحرفي بتقديم الشرح والتوضيح للسياح حول ما يتم عرضه من منتجات حرفية. ولذلك ندعو المراكز التجارية الكبرى، ومن باب المسؤولية الاجتماعية، إلى تخصيص مساحات مُميزة في مواقع جاذبة بداخلها لصالح الحرفيين، بأسعار مدعومة، كي يتمكنوا من بيع مُنتجاتهم وتحقيق الربح الذي يُعينهم على الاستمرار في عملهم الحرفي، دون أن تتكالب عليهم ظروف الحياة ومتغيرات العصر من تطور تقني ومعرفي.

وأود أن أوضح هنا أنَّ جريدة الرؤية ومن مُنطلق دورها المبادر لتعزيز التنمية في مُختلف المجالات، تسعى في الوقت الحالي لتدشين منصة "عمانيتيز" الإلكترونية، في إطار جهودنا لدعم رواد الأعمال والحرفيين، وبما يضمن توفير منصة تسويقية جذابة تأخذ بروح العصر وتعمل على الاستفادة من التطور التقني الحاصل من حولنا، دون أن نقف مكتوفي الأيدي غير قادرين على التطور. هذه المنصة الإلكترونية هي أشبه بـ"مول تجاري إلكتروني" تتيح الفرصة لأصحاب المنتجات المتنوعة، ومنها بالمقام الأول المُنتجات الحرفية، للتسويق لها وتعريف الزبائن بخصائصها ومُميزاتها، ويحدونا الأمل في أن تكون خير داعمٍ لهم حماية لحرفنا العُمانية وارتقاءً بها، وتعزيزًا لهُويتنا الوطنية.

والنهوض بالقطاع الحرفي يستلزم اتخاذ حزمة من الإجراءات واتباع مجموعة من السياسات التي تضمن وضع المنتج العماني في الواجهة، ونقترح هنا أن يتم تخصيص جزء من ميزانيات الهيئات والمؤسسات لشراء المُنتجات الحرفية، عند تنظيم المعارض والمؤتمرات والفعاليات المُختلفة. كما نأمل أن تسارع مؤسسات الدولة المعنية بوضع التشريعات القانونية اللازمة لتنظيم العمل الحرفي وضمان سُبل الدعم والتطوير، فضلاً عن إيجاد صيغة ملائمة لحث أبناء الحرفيين على امتهان حرفة الآباء والأجداد، وأيضًا فتح المجال أمام المواطنين من خارج الأسر الحرفية، لتعلم أسرار هذه الحرف الرائدة. وهنا نناشد المسؤولين عن كلية الأجيال أن تتسارع الخطى قدر الإمكان لافتتاح هذا الصرح الأكاديمي الذي من المُؤكد أنه سيُحقق الكثير من الفوائد والمنافع للقطاع الحرفي، إذ ستكون هذه الكلية المؤسسة الأكاديمية الأولى ربما على مستوى الوطن العربي التي تمنح درجة أكاديمية في المجال الحرفي. كما نقترح في هذا السياق إنشاء معاهد تدريب متخصصة في المُحافظات، تعمل على ربط الحرف العُمانية بالواقع الجغرافي لها، فمثلا يتم إنشاء معهد حرفي في ظفار لتدريب وتأهيل المُواطنين على صناعة المجامر الفخارية التي تشتهر بها ولايات محافظة ظفار، وكذا الحال في صور؛ حيث قلب صناعة السفن العُمانية التي يعود تاريخها لعقود طويلة مضت، وغيرها من الحرف التي ارتبطت ارتباطا عضويا بالبيئة المحلية التي ظهرت واشتهرت فيها. هنا نكون قد حققنا فوائد اقتصادية تتمثل في توفير الوظائف وتنشيط حركة التجارة عبر بيع وشراء المُنتجات، وفوائد اجتماعية من خلال توفير سُبل دخل كريمة للمواطنين، علاوة على الفوائد المتحققة للصناعات الحرفية نفسها مع تنامي أعداد الممتهنين للصناعات.

إنَّ الصناعات الحرفية قادرة على أن تكون رافدًا تنمويًا على المستويات كافة، اقتصاديًا واجتماعيًا وصناعيًا، فقط يتعين علينا الأخذ بزمام المبادرة والإسراع بإيجاد آليات تضمن تنفيذ المقترحات والأفكار البناءة التي تعمل على تحقيق ريادة هذه الصناعات والحفاظ عليها لأجيال مُتعاقبة في المُستقبل.