هل أصبح الإلحاد ظاهرة اجتماعية في الواقع العربي؟!


محمد عبد العظيم العجمي | مصر

في ظل الحالة من عدم التوازن النفسي الجمعي الناتجة عن حالة عدم وضوح الرؤية والتفكك والضبابية الاجتماعية والعمه الفكري التي تحياها المجتمعات العربية، تبرز هذه الأفكار إلى السطح الاجتماعي معلنة عن نفسها كسابقتها من العلمانية  والليبرالية والماركسية والعولمة وغيرها من الواردات وإن كانت امتدادا طبيعيا لها ، وهي نوع من التداعى الأممي (الفكري) الذي أخبر عنه الصادق المعصوم ، وكذا نوع من اتباع سنن من قبلنا حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه  ..
 وهكذا كلما مرضت البيئة الاجتماعية والفكرية وضعفت مناعتها العقلية والدينية ، صارت عرضة للأمراض التي لم تكن معروفة في أسلافها، كما يسري ذلك القانون على الحالة الجسدية من تعرض الجسد الواهي الضعيف المناعة إلى الغزو الفيروسي الذي يعلي من وهنه ويقوي من ضعفه .
تبرز هذه الظاهرة الاجتماعية التي يمكن أن نسمٍها كنوع من "التطرف" ، حيث التطرف هو كل شذوذ عن الوسطية والاعتدال وهو بلوغ أقصى طرف الشيء ، وهذا الخلل هو خروج عن الشرعية السماوية التي يدين بها معظم بلاد العالم العربي والتي لم تعرف في بلاد العرب في الجاهلية فضلا عن الإسلام، إذ لم يكن كفار مكة أو الجزيرة في هذا الوقت (ملحدين) بالمعنى المتداول الآن ، إنما كانوا مشركين كما سماهم القرآن مقرين لله بالوحدانية ظاهرا ويلتمسون من عبادة الأصنام قربى تقربهم إلى الله زلفى" أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)"الزمر، " وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)"لقمان ، "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)"الزخرف.
لكن عقلية الإلحاد التي يروج لها البعض بقصد والبعض بدون قصد هي نوع من الشذوذ حتى عن منطق الكفر إن جاز أن يسمى الكفر منطقا، حيث كفر الجاهلية الذي يقر بوجود الله ولكنه يتأبى على إخلاص التوحيد لوجهه وصرف العبادة جميعها إليه، لكنا لم نعلم من أنكر وجود الخالق جملة ولا تفصيلا ولا منطقا ولا عقلا، إذ أن هذا الجدل يتنافى مع المنطق العقلي والعلمي فضلا عما تقره الأديان السماوية التي يدين معظم العرب في الجاهلية وبعد الإسلام لله بها .. فمن أين جاء هذا الخرف إلى بلادنا؟!!
وقد وردت كلمة (الإلحاد) في القرآن في أكثر من موضع "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)"الأعراف، "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)" النحل،  " إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)" فصلت..  قال البغوي في إحياء التراث "وَمَعْنَى الْإِلْحَادِ هو الميل عن القصد، يُقَالُ: أَلْحَدَ يُلْحِدُ إِلْحَادًا، وَلَحَدَ يَلْحَدُ لُحُودًا إِذَا مَالَ، وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ أَيْ يَكْذِبُونَ. "، وهو الميل عن حد القصد والاعتدال لاستحواذ الهوى على النفس وتمكن الغواية من نفسها، كما قال أبونواس :
لا ترجع الأنفس غن غيها      حتى يكون لها من نفسها رادع
كثير من المنطلقات المتشابكة المعقدة التي بعثت بهذا الزخم والعته النفسي والفكري إلى الواقع العربي المريض سياسيا واجتماعيا، وأيقظته من رقدة العدمية، حيث تتراجع تدريجيا ثوابت الوعي الديني والأخلاقي مع الدعوات السياسية الصاخبة لإستجداء الرضا الغربي عن الأنظمة ، فتجرى ثمة تحولات منهجية ثقافية في البنية الثقافية والموروث الديني بزعم تجديد الخطاب وتنقيح العقلية الدعوية من حالة الوعظ والترغيب والترهيب إلى حالة هلامية إعلامية تكاد تطمئن المسطحون البلهاء الذين يبحثون عن قناعة أن "الدين علاقة بين العبد وربه وفقط" .. هؤلاء الذين يبحثون عن دين الطمأنينة الذين يرتعون معه في واقع الحياة كالأنعام، مع قناعة أن التكاليف الشرعية عملية اختيارية لا تريد أن ترهق كاهل البشر أو تحملهم مالا يطيقون ..
ومن حالة الانفتاح الثقافي في (بلاد الحرمين ) ، وإنشاء (هيئة الترفيه) يرصد لها الملايين من الأموال ، إلى استبدال مادة (التربية الدينية) لتحل محلها مادة (الأخلاق) في بلد الأزهر ، وأبدية السلطة السياسية في الواقع العربي والتي تحجب أفقها بوارق الأمال في الانتقال إلى حالة من الممارسة السياسية التي ترقى نسبيا بإنسانية الإنسان ، وتكفل الحقوق الاجتماعية والسياسية كما تنص عليها الدساتير المسطرة نظريا ، مع حالة الانهيار والتداعي لثورات الربيع العربي ومكتسباتها التي ذهبت إثر الرياح ..
النظرة الدونية للواقع العلمي المتخلف كثيرا عن ركب الحضارة الغربية التي تخطف الأبصار والألباب ، وتروج إعلاميا وثقافيا للادينية التي استغنت بالعلم عن الإله (كما يدعون)، والمقارنة المستمرة المتسائلة عن سر الفوارق بين الحضارتين ، وعزو كثير من العقليات الشبابية الغير مؤهلة بعلم التاريخ ، عزوها تخلف العقل العلمي العربي بسبب تشبسه الديني الذي قد لا يحتاجه الواقع الحالي، وربما يكون (في تصورهم) هو الدور الرئيسي في القرار على هذه الحالة من الثبات أو التراجع الحضاري والعلمي.
كل هذا يورث من الضعف النفسي خصوصا للشباب في المراحل العمرية الأولية (المراهقة) التي تتسم بكثير من عدم الثبات النفسي والفكري .. تتشكل فيها كثير من قناعات الإنسان وثقافته وعقيدته الدينية والوطنية ، وهي يعوزها كثير من الاحتضان الأسري والوطني الذين يساهمان بنصيب وافر في هذه الفترة من التشكيل والتكوين العقلي ، فإذا تراجع هذان الدوران فمن الطبيعي أن تتلقف الشباب تيارات الواقع الاجتماعي السلبي ، والتي يعد دعاة (الإلحاد ) جزءا أصيلا منها الآن .. إما الإلحاد أو التطرف أو الانجراف في واقع مشابه من الجنس والمخدرات.. لا تنبت مثل هذا الدعاوى الفيروسية إلا في جسد اجتماعي مترهل مريض فتتنامى حتى تتحول إلى نوع من الوباء والعدوى الممتدة ، وقد لا يوقف امتدادها إلا اجتثاث جزء أو أجزاء من الجسد.
فقد أنشأت هذه الدعوات منابر روجت لها عن طريق الفضائيات المفتوحة ووسائل التواصل الاجتماعي ، والتجمعات الغير هادفة أو باحثة، على المقاهي وفي الفنادق والنوادي الاجتماعية، يتبنى الترف الاجتماعي جزءا كبيرا من هذه التجمعات ويحتضن الواقع الاجتماعي المتردي بذورها ويرعاها حتى تستوي على سوقها..
وفي ظل هذه الغفلة السلطوية والاجتماعية أو التغافل، وإن لم تؤخذ خطوات حاسمة علاجية على كل المستويات من المحاسبة وسن القوانين الرادعة وإفساح منابر الدعاة الراسخين في العلم.. سيفاجأ الجميع بهذا الوباء يعلن عن نفسه جهارا مطالبا بحريته في الاعتقاد كما يشاء ، والتعبد لما يشاء "أو عدم التعبد" ، مقتطعا جزءا عزيزا علينا من جسد المجتمع (الشباب )، حين يكون طريق العودة قد تعذر وتعثر ..
وهكذا تتلصص منحرفات الفكر ، تنظر من طرف خفي حتى تلقاها منحرفات النفوس ومرضى القلوب ، حتى تشرب في قلوبها فتصبح وقد ادعت لنفسها حقوقا مقتطعة من بنيان هار أو مجتمع متمزق ،  أو من واقع سياسي هزيل .. كما تحاول أمثالها من دعاة انتكاس الفطرة الذين يدعونهم (المثليين)، وقد أصبحوا يجهرون بما كانوا يخفون من قبل ويعلنون ما كانوا يتاورون منه قبل أعوام ، حيث كانت حدة التعاطي السلطوي والقانوني مع هذه الظواهر، وكذا رفض الواقع الاجتماعي ونبذه لأمثالهم .. دعاوى تدعمها كثير من الأفكار الخارجية المشابهة ، يشوبها كثير من التخليط والتخبط وعدم الاتزان.
يخلط الكثير من شراذم الفكر والعمه القلبي هؤلاء بين حرية الاعتقاد في الدين ، وبين ما يصنعون من الدعوة إالى الإلحاد، ويؤلون النصوص (القرآنية) على غير وجهتها "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" ، "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، وهو تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين الذين أخبر عنه سيد العالمين..
وقد يبدو من شكلية الاعتراض السطحي ، أنه طالما أن هناك حرية مكفولة شرعية ، فلم الحد إذن ؟ والجواب أن الحرية هنا مكفولة قبل الانتساب للدين والدخول فيه ، أما من ارتضى لنفسه الإسلام دينا ، وآمن بالله وبرسوله وبكتابه كما هي شروط الإيمان وأعلن ذلك ، ثم نكص على عقبيه وارتد عن دينه ، فهو مستوجب إقامة الحد بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح " من بدل دينه فاقتلوه" رواه البخاري وغيره من أصحاب السنن، " لايحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ، الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " رواه البخاري ومسلم، وقد قاتل أبوبكر رضي الله عنه المرتدين مانعي الزكاة ، وقال" لأقاتلين من فرق بين الصلاة والزكاة " وقد جمع الله بينهما في كتابه ، وهم بالإجماع قد أنكروا معلوما من الدين بالضرورة ، فكيف بمن تنكر لوجود الخالق ونكص بعد الإيمان ؟!!
إن النفوس حينما تمرض وتضعف عن مجابهة واقع الحياة أيا ماكان ، لما خف من عقيدتها ودينها ، ولما استهوتها به الشياطين، وما أصابهامن الوهن، لا تجد لها متنفسا إلا بين أحضان أقرانها "قل كل يعمل على شاكلته" من شياطين الإنس والجن الذين يتلقونهم بدعوى الهداية "إلى الهدى ائتنا" تلجأ هذه النفوس إلى إنكار الدين والتنكر لخالقها بدعوى أنه لو كانت هناك إرادة إلهية مهيمنة لما لاقت ما لاقت من عنت أو ظلم، ولما استشرى الشر في الأرض مستطيرا..
والحق أن الله تعالى لا تكون حكمته في الخلق والتدبير تابعة لعواطف البشر واختلاجاتهم ومعاناتهم ، إنما قد تكون فوق إدراكهم، وقد يريد بها تمحيص أهل الكفر من أهل الإيمان .. وفي ظل هذا الزخم من البلاء وواردات الاختبار يميز الله الخبيث من الطيب ، فيتبع كل واحد منهم ما كان يعبد في رخاءه.. فمن كان يعبد هواه تبعه، ومن كان يعبد الله فإن الله لا يتخلى عن أولياءه " قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) " الأنعام ، " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)"الحج.
وبعد فهذه دعوة تنبيه وتحذير لكل أسرة أو مجتمع أو سلطة سياسية أو هيئة دينية واجتماعية.. إن هؤلاء الشباب عصبة الأوطان ومتكأها في الشدائد ، ومعاول البناء في الرخاء ، وفي عنقنا أمانة التوجيه والترشيد والحسم(إن لزم الأمر) حتى لا نفسد بأيدينا ما غرسناه لقوادمنا ومستقبل أيامنا ، ثم نحن مسئولون عما استخلفنا ومافرطنا أمام الله رب العالمين .
وفي الأخير نضع قول الفرنسي فرنسيس بيكون ليكون علامة ضوئية على طريق المعرفة الطويل الذي يسلكه الباحثون عن الحقيقة الذي قول فيه: "إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الانسان الي الإلحاد، ولكن التعممق فيها ينتهي بالعقول الي الايمان، والعقل إذا أمعن النظر فشهد سلسلة الاسباب كيف تتصل حلقاتها لا يجد بدا من التسليم بالله"

 

تعليق عبر الفيس بوك