مشروع تصنيف النفوس الخاصة (2-2)

عائشة بنت أحمد البلوشية

عن عبدالله بن عُمر رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أحب النَّاس إلى الله أنفعهم للنَّاس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تُدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب قضاء الحوائج؛ فعندما أعتكف على عمل ما وأستدعي بنات أفكاري والإخلاص العام عنواني، ستصبح السعادة الصادقة رفيقتي عندما أجد من يُتابع ذلك العمل، ويضيف إليه بل ويذكر كل من ساهم في وضع البذور الصحيحة في أركانها التي ستساعدها على النمو والازدهار، أما أن أجد من ينسف كل ذلك مدعيا أن من سبقوه كانوا أقل ما يُمكن أن يصفهم به هو العتة والغباء، فذلك وربي عند الله عظيم، لذلك أرجو ألا يسفه البعض أفكار بعضنا، بل نتعلم أن هدفنا الأول والأخير هو الارتقاء بأنفسنا إلى أعلى درجات التصنيف، لأنَّ الآخرة هي الأبقى، وأن هدف خلقنا الأول هو العبادة، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) 56 سورة الذاريات، وعبادته تعالى تتجلى في كل قول وفعل، وليست محصورة في الصلوات وبقية أركان الإيمان والإسلام فقط.

الحديث: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للنَّاس)، وقد جاء في الحديث الآخر: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) فقرر هنا الأمر على العموم، وبدأ في تفصيله من مواضع أخرى كثيرة، فذكر على سبيل المثال الابتسامة، وسيلة إنسانية راقية، وقد ورد في صفة النبي صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله: (ما رأي إلا مبتسماً)، حيث أعجبتني مقولة بلهجتنا العامية الجميلة (إذا ما تقدر تتصدق بفلوسك، تصدق بضروسك)، وهي جملة بسيطة تجعلك تبتسم رغماً عنك، وليس بخافٍ عن الجميع أن عالمنا اليوم لا يخلو من الهموم والنكد والغموم، وبابتسامتك هذه تنفع أخاك المسلم، بحيث تفرج عنه ولو النزر البسيط منها.

تحدثت هنا عن التبسم، هذه الحركة العضلية البسيطة، لاستشهد بعظمتها في نفع البشرية، رغم أنَّ هنالك الكثير والكثير من غيرها من بسيطات الأخلاق التي قد ترفع قدرنا في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وهذا لغرض الوصول إلى بداية حديثي اليوم، أن ننفع الناس بما لدينا من علم وخبرة، وألا نخفي أعمال غيرنا ونرسلها لمحرقة المؤسسات حتى لا ينسب لهم أي فضل، بل أن نصدق القول والعمل مع الله تعالى أولاً ثم مع ولي أمرنا ثانيا، ونأخذ العمل وأن نطور فيه، ولن ينقص من شخصياتنا ولا من أدائنا البتة، لو أننا أشرنا ولو على استحياء إلى أن هذا العمل تم تطبيقه سابقًا، ولكننا اليوم نطبق ما تمَّ تطويره من إضافات.

لأنه أيضاً هنالك أمر آخر مما يمكن للمرء أن ينفع به الناس، ألا وهو كشف الكربة عن الناس، فقد تجد أخاك به ما به من كرب الدنيا؛ إما لمصاب في الحال أو المال أو العيال.. إلخ، فتأتي أنت لتنكىء ألمه بإقصائه عن مجرد ذكر بسيط أو شكر على جهد، أنت أكثر الناس علمًا بأنَّه بذل فيه جهدا لم تبذل به إلا إضافة اسمك فقط مكان اسمه.

ليتنا نتعامل مع كل أمر من  تفاصيل يومنا بأننا في مشروع لتصنيف النفوس الخاصة، وهنا لا أتحدث عن الأنفس السوداء، أو الأمارة بالسوء، أو غيرها المصطبغة أو المقنعة، بل الأنفس الراقية التي وضعت لنفسها معايير إنسانية، ومؤشرات أداء ربانية، لتصل إلى مستوى القرب من الأرواح الشفافة التي تنثر الإيجابية أينما حلت وارتحلت في هذه الدنيا، وما أحوجنا إلى هذا النوع من المشاريع، لأن العطاء سيصبح بمقدار الحب لله والوطن والسلطان.

 

______________________________

 

توقيع:

"مَا كُلُ مَن ذَاقَ الْصَّبَابَة مُغْرَمٌ.. مـنْ لـمْ يـَذُقْ طَعـمَ الْمَحَبَّةِ مَا مرَسْ.

أَنـا يَا سُعَادُ بـحـبَلِ وِدِّكِ وَاثـقٌ.. لَم أَنْسَ ذِكْرِكِ بِالْصَّبَاحِ وَفِي الْغَلَسْ.

يَا جَـنـةً لِلـعَاشـقَيْنَ تـزَخـرَفَّت.. جوُدِّى بُوْصــلٍ فَالـمُتـيَمُ مَا أَتـنَّسْ.

أَنيتُ قـالْت كم تأنُ أَجَبْتُهَا.. هـذَا أَنـيـنُ مُـفـارْقِ بَالـمَوْتِ حـسْ.

قَالـت وَمَا يَشْفِيَك؟ قُلْتُ لَهَا الْلِّقَا.. قالت أَزْيدَكَ بِالْوِصَال فَقـلـتُ بِسْ.

فـتَبَسَّمَت عِجـبِاً وَقَالَت لَن تَرَ.. وَصلي فذَاكَ أُمـرُ مـنْ أَخَذ الْنَّفْسْ.

قَرَأْت سُعَادُ بِضِدِ مَا أَقـرَأ أَنا.. أَقـرَأ أُلـم نـشَرَح فـتــقَرَأ لــي عَبَسْ"

عبدالغني النابلسي الدمشقي، القرن الثامن عشر.