.. إنَّه الصديق الذي لن يخذلك

 

 

منى بنت حمد البلوشية

"الانسان كائن قارئ، يقرأ نفسه في الكتب، يقرأ الكتب في العالم، ويقرأ العالم في نفسه، القراءة طريقة الإنسان لفهم نفسه".

القراءة لها الأثر الكبير والفعّال على الفرد، وصقل وبناء شخصيته، والتي تُمكنه من المشاركة في نقاش بكل ثقة، وهي غذاء للعقل والروح؛ حيث تهفُو لها دون سابق إنذار، والقراءة هي عالم آخر وعشق من نوع آخر، لا يشعر به إلا من يعيشه، ويهيم في هواها ومُغرم بها، هي كالبحر تغوص في أعماقها ولن تخرج منها بسهولة حتى تستلذ وجودك بين أمواجها وكثرة حروفها.. القراءة عالم واسع لا يدرك معناه سوى من يحتضن الكتاب وكأنه يمتلك كل شيء.

والكتاب هو الصَّديق الذي لا يخون ولا يخذل صاحبه، هو الذي يفهمك في كل وقت، هو الذي تلجأ إليه إذا شعرت بأنك تحتاج من يتحدث معك بصدق دون أن يُقاطعك، هو الذي لن تندم على حبك ولجوئك له، هو من تختاره بعناية، هو الوفي الذي لا يخون وإذا لم يعجبك به شيئًا تركته دون نقاش وعتاب ثم تعود له. والقراءة هي العشق الذي لا يفهم معناه سوى من يعشق ويهيم في حبها، في زمن شح به وجود القارئ النهم، في زمن يتعذر على البعض -لعدم وجود الوقت الكافي- القراءة، إنني أعتبر القراءة الملاذ الآمن من عثرات تعتري البشر، أعتبرها الصديقَ الذي يفهم مشاعره من حزن وتعب وسعادة ومشقة؛ فانتقاء الكتب أمر مهم في الوقت الذي أنت تحتاجه لأن تقرأ شيئا يشبه حالتك التي تكون بها، يُطبطب جراحك، ويؤنس وحدتك، ويسعد بقربك وتسعد بقربه.

الكتاب هو ملاذي أنا حين أمسكه أتخيل رائحته وعبق حروفه يتطاير حولي، ويُحيطني قبل أن أتصفحه؛ ففي لحظات عندما أقف على رفوف كتبي ويقع نظري على كتاب آخذه وأقلِّب صفحاته، أشعر بالضَّجَر لعدم حُبِّي لقراءته، لكنني سرعان ما أن ألبث وأتناوله من جديد، وأقراه.. هكذا هي الصداقة أن تنتقي أصدقاءك بعد أن تألفهم، وتتألم لألم الصديق.. هكذا تكون حالتي: أتالم إذا أصيب أي كتاب من كتبي بخدش من شخص حمله وهو لا يُتقِن فنَّ القراءة.

رغم طغيان التكنولوجيا وتحميل الكتب الإلكترونية، إلا أنني لم أحبذ القراءة عن طريقها إلا في أوقات لا أحمل فيها كتابا ورقيا، أكون قد اضطررت لأن أفتح شيئا منه، لكنني لا أجد فيه تلك النشوة ولا لذة للقراءة بها، مثلما تتلمَّس صفحات الكتاب الناعمة وهو بين يديك.

من يَدخُل عالم القراءة والكتب لن يخرج منه بسهولة، هي سعادة الحضارات؛ فبدونها يصمت التاريخ، ويجمد كل شيء من علم وتفكر، هي نافذة للعالم الخارجي هي الخيال الواسع، والذي يتسع مداه بعين ذلك القارئ الذي تتسع به مداركه، فكلما وقعت في حب كتاب لا أستطع تركه، وإذ أمسكت بكتاب جاءني الآخر وكأنه يتصارع مع رفيقه.

يُقال: "من تفرد بالعلم لم توحِشه خلوة، ومن تسلى بالكتب لم تفته سلوة، ومن أنسه قراءة القرآن لم توحشه مفارق الإخوان".

نحن أمة اقرا فلِمَ لا نقرأ؟! نحن أمة محمد التي نزل بها كتاب الله عز وجل، وأول كلمة قيلت لسيد الخلق "اقرا"، اقرا وارتقِ ولنرتقِ معا. فالقراءة هي حياة لمن لا حياة له، ولها عالمها وجنونها الذي لا يُطاق من جماله، فهناك من لُقب بمجنون الكتب والقراءة، وهناك من لا يستطيع مُفارقتها، هناك من يتوسدها ويغفو ويصحو عليها.. "اقرا" فلن تندم يوما على صداقتك لكتاب، ولن تشعر يوما بفراغ يعتريك، ولن يخونك ولن يخذلك كتاب قراته وقرأك، لن تندم على خير جليس تجلس معه في صباحك ومسائك؛ فهو المؤنس لك في أوقات ضجرك وحزنك وسعادتك.. اقرا، وارتقِ، ولنرتق معا.

تعليق عبر الفيس بوك