صرخات صامتة.. لا تسمعها إلا جوارحهم

 

د. عبدالله باحجاج

تلكم صرخات مرضى الكلى، ننقلها بصرخة عنوان مقال اليوم بعد أن اقتربنا منها مؤخرا، واكتشفنا أنّها صوت لم يخترق حالة الظلام التي يعيشونها، وسيظلون أسرى له - أي الظلام- إذا لم تؤمن حقوقهم، فرغم انفتاح وزارة الصحة على حقوقهم بالتعاون من بعض الشركات ورجالات الأعمال، إلا أن ذلك، لم يحدث الانفراجة المأمولة، ربما بعضها يحتاج لمزيد من المال والوقت، وهذا لن يكون لصالح هؤلاء المرضى، وأخرى تحتم قرارات فورية لم تتخذ حتى الآن، وبسببها تزداد معاناتهم.

لن نخفي انفعالاتنا بمعطيات هذه القضية، ولا تفاعلنا الكبير معها  بسبب حمولتها الإنسانية، وعلاقتها بحق الانسان في الحياة أو حقوقه اللصيقة بكينونته الإنسانية فهم يعانون بصمت، ويتألمون بصمت، وتذرف دموعهم داخل جوارحهم وليس من خارجها حتى يخيفونها  خشية أن يظهر ضعفهم ويمس كبريائهم، إنهم يغتالون الألم اليومي في رحم معاناتهم المستمرة، وعندما يحين موعد مراجعتهم الدورية في مركزية الخدمات الصحية المتقدمة في مسقط سواء لمرضهم أو لمرض آخر يعانون منه كذلك، تتعقد معاناتهم النفسية أكثر مما تتصورون، وتتأزم أوضاعهم الصحية المصاحبة للمرض، كارتفاع الضغط أو السكر.. دون ان يحس بهم الغير، لماذا؟ لأنهم في حالة المراجعة تمنح لهم فقط تذكرة السفر دون بقية المصروفات الضرورية كالسكن والمأكل والمواصلات؟

ولماذا؟ التساؤل ذاته لا يزال قائما، لأنهم عندما يكونون في مسقط، ويحين موعد غسيلهم، ترفض كل اقسام ومراكز وحدات الغسيل استقبالهم، بحجة أنّهم ليسوا من مرضاها، إلا إذا كان منوما، أما مراجعا وحتى لو بتحويل رسمي، فالرفض "مطلق" وهذا الوضع ينطبق على كل المرضى من المحافظات الأخرى، لكن تظل للمرضى من ظفار ومسندم والبريمي معاناة أكبر لخصوصية بعدها الجغرافي، فعندما يسافر المريض للمراجعة، يكون لزاما عليه أن يغسل في اليوم التالي؛ لأنّ حالته الصحية تستلزم الغسيل ما بين "3-4" مرات في الأسبوع، فهل صحته تسمح له بأن يراجع ويعود في اليوم نفسه؟ فكيف إذا ما استلزمت المراجعة أكثر من يوم؟

تساؤلات نطرحها من واقع الحالات التي تحدثت معنا - بناء على طلبها- وقد حدث لها كل ما أوضحناه سابقا، وهي في قمة الاستياء والإحباط، وكل من يصغي أذنيه لها، يحس منذ الوهلة الأولى بآلامها العميقة، وبانسداد كل منافذ الأمل في نفسياتها. فرأفة بهم، ورحمة بما يعانونه من آلام داخلية صامتة، ومطالبهم مشروعة، ومسؤولية تحقيقها يقع على الحكومة والمجتمع معا، خاصة إذا ما علمنا أنّ الغسيل "نكرر" يعد السبب الأساسي لحقهم في البقاء - والأعمار بيد الله - لذلك، تضطر الحالات الرجوع لصلالة لضرورة الغسيل، ومنها من توسط لها وزير، ومنها من اضطر لدفع المال من جيبها الخاص للغسيل في المركز الخاصة في مسقط.

لكن كم حالة تسمح لها ظروفها المالية دفع ما بين 60- 70 ريالا للغسلة الواحدة التي تستغرق ما بين 3- 4 ساعات؟ تأملوا في القيمة المرتفعة للغسلة الواحدة، فكيف إذا ما كانت غسلتين أو ثلاثة، وأضيفوا عليها أعباء السكن والمعيشة والمواصلات، فهل نحس الآن بالحجم الكبير والثقيل لمعاناة هؤلاء المرضى؟ علما بأنّ وزارة الصحة كانت تتعامل مع مستشفيين خاصين بهما مركزان للغسيل لمثل هذه الحالات المحولة التي لا تسمح أقسام ومراكز غسيل الكلى الحكومية باستقبالها جراء الضغوطات عليها، لكنها- أي الصحة- قد سحبت هذا الحق منذ فترة زمنية.

وحرمان هؤلاء المرضى من الغسيل خارج محافظاتهم، يفقدهم في المقابل بعض الحقوق الأساسية كحقهم في التنقل والتنزه داخل وطنهم، والحكم عليهم بالسجن "مرضيا وجغرافيا" لذلك، فهم حبيسو المرض والمكان.. ظلام في ظلام يعيشونه وعذاب يومي قد أصبح لصيقا بهم، فبعيد كل حالة غسيل والتي قد تستغرق ما بين 3- 4 ساعات، يعانون من الهبوط لساعات...إلخ.

ولن تكتمل صور المعاناة إلا إذا كشفنا عن نقص هذه الخدمة حتى داخل محافظاتهم "نوعا وكما" ففي ظفار مثلا، هناك 200 مريض منهم 17 يمنيا – وهم في تزايد – يتناوبون على أكثر من 30 جهازا فقط، والكثير منهم يأتي دوره في منتصف الليل، وفي كل فصل خريف، يزداد الإقبال على قسم الغسيل في صلالة من بقية محافظات البلاد وكل دول مجلس التعاون الخليجي، فهذا القسم لا يعرف "الرفض" كلما استدعت الحاجة إليه من مريض؛ مما يضطر إلى العمل على مدار الساعة، كما يعاني من نقص حاد في التمريض، فكل ممرض واحد يغطي أربعة مرضى؛ رغم أنّ المهنة تستلزم تغطية الممرض الواحد مريضين فقط؛ وفق رأي خبير مهني.

وقد يراهن البعض على مركز غسيل طاقة الجديد المقرر الانتهاء منه قريبا، وهو سيحتوي على 11 جهازا جديدا، وتتم إقامته بتمويل من شركة ريسوت للإسمنت، لكنه لا يتوقع أن يدخل الخدمة قريبا، بسبب أنه سيحتاج إلى أطر وكوادر إدارية ومهنية من تمريض وأطباء، لا يقل عن 20 وهم غير متوفرين الآن، وهذا المركز يحسب للإدارة المحلية للصحة لإيمانها بدور الشراكة مع القطاع الخاص، لكن، إلى أي مدى ستتحمس الإدارة المركزية في توفير تلكم الأطر والكوادر الجديدة للمركز الجديد؟

والحل الذي نراه، أنه ينبغي على وزارة الصحة الإسراع في تأمين الكوادر والأطر لمركز طاقة الجديد، وزيادة أجهزة الغسيل فيه، فمالية الدولة الآن في تحسن كبير، ويسمح بمثل هذا الانفتاح الآن، كذلك ينبغي عودة التعاون مع المستشفيين الخاصين لغسيل الكلى في مسقط - كما كان سابقا- وبهذا نضمن لمرضى الكلي حق الغسيل المقترن بحقهم في التنقل والتنزه داخل بلادهم، وهذا الأخير حق أصيل لدواعٍ إنسانية خالصة، وعوضا عن المراجعة المسقطية للمرضى، فلماذا لا يتم زيارات الاستشاريين والاختصاصيين للمحافظات للكشف عن الحالات بدلا من إرسالها لمسقط للمراجعة وفق برنامج ممنهج شهريا.

لن نختم مقالنا، إلا بالإشادة لمبادرة ورثة عبدالله بن موسى الرئيسي إقامة مركز للكلى في ولاية العامرات على نفقتها الخاصة، فهى نموذجا ينبغي الاقتداء به، وهو لم يأت على ما يبدو إلا بعد إحساس هذه الورثة بمعاناة مرضى الكلي، وحاجتهم القصوى لتعزيز حقهم في البقاء.

أين أغنياء المحافظات من هذه الخطوة الإنسانية العالية؟ لو أسقطنا ذلك على محافظة ظفار، وأين تجارها ورجالات اقتصادها؟ فقد منحوا الأراضي السياحية والتجارية ومجموعة منافع كبيرة- لا حصر لها- وكونوا ثراءهم منها، ويعيشون في انعزالية مغلقة عن مجتمعهم، لماذا هذه الأنانية؟ ندعوهم إلى الإحساس بالتحولات الاجتماعية التي تحدث داخل بيئة احتضان استثماراتكم؟ لن نعمم، هناك مبادرات، نقدرها ونثمنها- دون شك - لكنّها لا ترتقي إلى مستوى المسؤولية الاجتماعية الملزمة عليهم أخلاقيا ووطنيا.