كتاب واحد .. فقط!

 

محمد رضا اللواتي

تتعرض مسقط هذه الأيام لأخدود ثقافي، قالت الأنباء ثمانمائة واثنان وثمانون دارًا للنشر سيمطرونها بسيول جارفة من العناوين، هذا قبل أن ينحسر تأثيره في ختام هذا الشهر، إلا أنّ زميلي بات شغله الشاغل فقط أن يبحث عن ذلك الكتاب الذي يُزيح عن عينيه كثرة هذا العالم، ويُريه الوحدة.

لقد أمسى ذلك المساء طويلاً يتأمل مقولة المالطي "طاليس" الشهيرة: "كل شيء واحد"، بعد أن ذكره بها صديق له كانا يقضيان أولى ساعات الصباح في المشي على شاطئ "القرم" الأخاذ.

لقد كانت الريح في صباح العشرين من فبراير تعصف بملابسهما، بينما تتمايل المروج الباسقات على وقع صريرها، وأمامهما بدا البحر هائجًا، وقد تخلى عن زرقته لانعكاس السحب الداكنة على سطحه.

قتام رمادي يمتد من شطآن حالمة ليصطدم بسطح بحر غامق ويتسلق أفق السماء فيسري في غيوم مكفهرة تنتظر الإشارة لتنهمر بسيول غزيرة.

حينها، همس في أذن صديقه بأنَّ الأشياء تبدو له وكأنَّها قد غدت واحدا.

وبالمُقابل، همس صديقه في أذنه أيضًا ليقول له بأنّها ليست تبدو، بل هي في الحقيقة واحد! واسترسل يقول له بأنَّ الألماني "نيتشه" إنما عد "طاليس" أول الفلاسفة الحقيقيين ذلك لأنَّ هذا الأخير ارتفع عن الأشياء الحسية جميعها وقال بأن الكل واحد!

عندها قهقه زميلي في وجه صديقه مشيراً إلى الأمواج التي تثور كلما اقتربا منها، وهو يقول له بأنك لست بالذي تظنني مغفلاً فلم أعد أميز بين بساط الرمل البارد هذا وذلك الضباب الجاثم على كواهل تلك الجبال الراسيات، وعن تلك السُحُب الداكنة التي أخذت تُسقط على رؤوسنا زخات من الرذاذ البارد.

إلا أنّ تعجب صديقي بلغ أوجه عندما لم ينكر زميله أياً من تلك الواقعيات المتنوعة، ومع هذا فقد أرجعها إلى بُعد ترتمي كلها فيه بلا أدنى اختلاف. إنِّه "الوجود".

ما أعجب أمر هذا "الوجود"!

فرغم أننا نطلقه على ألوف وألوف من الأشياء المتنوعة المختلفة، إلا أنَّ معناه يظل ثابتاً لا يتغير بتغير موضوعاته.

هل يُعقل أن ننتزع مفهوماً واحدًا من حقائق متباينة كثيرة لا يجمعها أمر؟

هذا غير ممكن فعلاً كما اعترف زميلي لصديقه.

وإذن، فهذه الأشياء كلها تشترك في الوجود، وإذا كان الوجود هو المانح إياها تحققها فكيف لا يكون هو مُتحقق بذاته؟

لقد طلب من صديقه أن يتريث قليلاً لحين أن يَرشف مجموعة من الرشفات الساخنة من قهوته الصباحية، فسوف تساعده حتماً على مزيد من التركيز.

وما كاد أن ينهي تمام قهوته، إلا وكان زميله قد استطاع وببراعة أن يزيح عن ذهنه حجاب الكثرة. لقد دعاه أن يتأمل الأمواج المُتلاطمة والأفق الرمادي والسحب الداكنة والرمال القاتمة دون أن يلتفت إلى أطرافها ونهاياتها، فماذا سيجد؟

زميلي المسكين لم يتمكن من القول بفناء الأشياء لأنه لم يدعوه لأن يتأملها معدومة، وإنما دعاه فقط لأن يتأملها بلا حدودها وأطرافها. لقد اعترف له بأنه يراها متحققة دونما تمييز، إلا أنَّ معلوماته لم تسعفه بلفظ يستطيع أن يشير إليها. ولكن صديقه كان متحفزاً لهذه اللحظة، وإذا به يقول له بأنَّ ذلك اللفظ ليس إلا الوجود!

إنه الوجود الذي يظهر لنا مرة في هيئة رمل، ومرة أخرى يتجلى لنا على هيئة بحر، إلا أننا لا نراه ولا نكاد نلتفت إليه لأنَّ أذهاننا تتمركز عليها حدود وأطراف الأشياء، أو "الماهيات" بلغة الفلاسفة، وحان الوقت لأن نرتقي مع "طاليس" إلى أفق الوجود فنخرج من مركزية التنوع إلى مركزية الوحدة، أو لنقل وحدة الوجود.

*****

كنتُ شارد البال وأنا أجول في أروقة معرض مسقط الدولي للكتاب، فلقد انهكني طلب زميلي بأن أعينه على العثور على كتاب يرفع عنه "الماهيات" فيرى "الوجود" متحققًا وراءها. لقد طلب مني أن أبحث له عن "كتاب واحد" فقط!

رباه!

إنه عنوان مُثير هذا:

"أصالة الوجود عند الشيرازي: من مركزية الفكر الماهوي إلى مركزية الفكر الوجودي" لكاتبه الدكتور "صلاح الجابري" بتقديم "كمال الشلبي"!

تُرى.. هل عثرت على ضالة صديقي؟