الثورة بلا قيادات (2)

 

 

◄ الحكم من القمة إلى القاعدة لم يكن إلا كارثة ووبالا على الدول العربية في عالم ما بعد الاستعمار

 

 

محمد علي العوض

 

يقول الدبلوماسي البريطاني كارن روس مواصلا الحديث في كتابه "الثورة بلا قيادات: كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة وتغيير السياسة في القرن الواحد والعشرين" أنّ حالات الاضطراب المتصاعدة التي يشهدها العالم حاليا تدفع الحكومات إلى تشديد قبضتها حتى لا تفقد وهم التحكم والسيطرة على الشعوب، كما تزيد من مراقبة نشاط مواطنيها أكثر على سواء على الانترنت أو الهواتف الخلوية التي تسجل حركاتنا ولقاءاتنا واتصالاتنا أو في الشوارع المزدحمة بكاميرات المراقبة التي بإمكانها أن تتعرف عليك وسط حشد مكون من آلاف الوجوه.. فالأماكن التي نتردد عليها والأشخاص الذين نلتقي بهم وما نتفوه به من كلام ومعلومات؛ باتت كلها موجودة لدى الحكومات وعالمة بها.

ويضيف أنه في هكذا أنظمة تقوم الشركات التكنولوجية المُذعنة والخانعة للحكومات وعلى رأسها الشركات ذات الصلة بالشبكة العنكبوتية بتجميع معلومات عن اهتماماتنا وتفضيلاتنا وصولا إلى رسم صورة شخصية صارخة الدقة، تبادر بعد ذلك إلى بيعها إلى أطراف أخرى على نطاق واسع – بما فيها السلطات- ولكن من دون إعلامنا.

هذا الحديث يعيد للأذهان الاتهامات العديدة التي يتمّ توجيهها مرارا للمواقع والشركات الرقميّة أمثال قوقل المتهمة بحسب ادعاء 7 دول أوربية بتعقب المستخدمين دون علمهم، أو فيسبوك المتهمة هي الأخرى ببيع وانتهاك معلومات المستخدمين الشخصية؛ فمن يقرأ النقطة الخامسة عشر في الفقرة الثالثة من شروط الخدمة جيدا "إننا نوفر فيسبوك "كما هو" من دون أي ضمانات صريحة أو ضمنية.. لا نضمن أن يبقى فيسبوك أمنًا أو خاليًا من أي خطأ..." يدرك تماما أنّ فيسبوك يخلي مسؤوليته عن أي ضرر يحدث للمستخدم من خلال استخدام معلوماته الشخصية؛ حتى لو كان فيسبوك طرفا في ذلك. ونستذكر هنا القضية التي رفعها المتصفحان الأمريكيان ماثيو كامبل ومايكل هورلي ضد "فيسبوك" حينما اتهما الموقع بتحليل رسائلهما الشخصية من دون علمهما لنقل بيانات إلى جهات معلنة.

ويرى كارن أنّ العالم تتلبسه حالة من الحرب الأبدية بدرجة أو بأخرى؛ فما من بلد محصن ضد خطر المتطرفين الذين دأبوا على اقتراف جرائم القتل بلا تمييز من بالي إلى ميامي ومن بغداد إلى مالي؛ فمن لا يرغب في استخدام السلاح الناري بإمكانه من خلال الحاسوب أن يصبح محاربا معلوماتيا، قادرًا على انتهاك حرمة منظومات حكومية حساسة، أو سلب ملايين الأموال بالاحتيال والقرصنة.

ويضيف أنّ الدول والأنظمة لم تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذا التهديد، وتمّ الرد وفق مناهج تقليدية قديمة؛ فالطائرات الأمريكية غير المأهولة تحلق فوق العديد من البلدان عبر كل من إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الجنوبية، والقوات الخاصة تشن غارات على أعداء مجهولين في الصومال واليمن وأفغانستان وغيرها؛ ولكنّ هذا النهج الذي يتبع أسلوب العنف لن يجدي، وستظل حالة عدم الاستقرار وتهديد العنف المحتمل تلازمنا عقودا طويلة؛ فمن الصعب تصور انتهاء هذه الحالة ومن السهل جدا التنبؤ باستفحالها أكثر فأكثر.

ينتقد كارن إجراءات حكومات الشرق الأوسط في أسلوب التحكم، ويرى أنّ ذلك الأسلوب لم يجر على المنطقة إلا مزيدًا من الحروب وانعدام الأمن والتخلف؛ ويستشهد بالعراق وسوريا اللتين أسفرت الأمور فيهما عن نتائج كارثية وصراعا ورعبا متواصلا لسنين عديدة، هذا بجانب الصراع الطائفي المدفوع بالتنافس الإقليمي والوكالة والذي زلزل العديد من البلدان العربية وراحت ضحيته آلاف الأرواح.

يطرح كارن روس تساؤل: ما الحل إذن للخروج من هذا كله؟ ويوضح أنّ هذا السؤال وما يترتب عنه من إجابات هو موضوع كتاب "الثورة بلا قيادات" والذي ينادي فيه -اتكاء على خلفيته الدبلوماسية- بالعودة إلى أساسيات الديمقراطية بمعناها الحقيقي؛ ولأنّ الناس هم أفضل من يقفون على واقع ظروفهم لذا يجب أن يقرروا شؤونهم بأنفسهم؛ إذ يستحيل على النخب المعزولة ولا سيما غير المنتخبة أن تعرف واقع المواطنين. وإن ظل الحال كما هو عليه فستظل دوامة القرارات الخائبة المفضيّة إلى الاحتجاج ومن ثم القمع تدور وتدور.

يدعو كارن إلى إحياء تقليد عريق أثبت نجاحًا في الماضي، وهو تقليد الحكم من القاعدة إلى القمة؛ ولتطبيقه فقط نحن بحاجة إلى جهد ومعايير سلوكية جديدة تتطلب الاستيعاب والاحترام واللاعنف؛ فإجادة فن الإصغاء للآخر واتخاذ القرارات الحاضنة لمصالح الجميع وآرائهم قد يستغرق وقتا طويلا ولكن هذا هو الحل الوحيد؛ وما لم نعمل على بناء ديمقراطية قائمة على استيعاب الآخر فسيبقى من تمّ إقصاؤهم رافعين شعار المقاومة إلى الأبد.

يصف الكتاب سلوك الأشخاص المستفيدين من النظم القائمة وأنصار الديكتاتورية أو حكم النخب صاحبة الامتيازات قائلا:" إنهم سيسارعون أولا إلى الاستهزاء ومن ثمّ إلى شجب البديل بوصفه تدبيرًا غير عملي وطوباويا من نسيج الخيال".

ويرد كارن عليهم بأنّ البديل ليس هذا ولا ذاك، فالأنموذج الذي يطرحه في كتابه لا يدّعي بناء مدينة فاضلة ولا يعرض مسارا محددا يسلكه الناس؛ إنما يدعو إلى نوع من الممارسة الديمقراطية أشبه بالتي كانت سائدة في اليونان القديمة، حيث كان المواطنون يجلسون لمناقشة شؤونهم العامة المشتركة وحلها.

ولإثبات نجاعة هذه التجربة الديمقراطية يستشهد بما حدث في إحدى المدن البرازيلية؛ حيث يقول إنّ الناس في هذه المدينة كانوا ينظمون عددًا من الجلسات لمناقشة كيفية إنفاق موازنة المدينة، وقد أثمرت هذه المناقشات عن نتائج استثنائية حيث اختفى الفساد تماما، وتم صرف ميزانية المدينة بعدل وإنصاف على الأحياء الفقيرة مثل نظيراتها الغنية. ويضيف أنّه جراء ذلك شهدت ميادين التعليم والرعاية الصحية والخدمات تحسنا دراماتيكيًا بحسب شهادة وتقارير البنك الدولي.

يسوق كارن مثالا آخر يعضد به ما سبق حيث يقول: في الزاوية الشرقية من سوريا تلك المنطقة التي يطلق عليها الكرد اسم "روج آفا" احتضنت تجربة "الحكم من القاعدة إلى القمة" جميع الأعراق والأديان والطوائف التي هناك: عرب، سريان، أكراد، أشوريين، نساء، رجال.. الناس هناك على حد سواء يقررون مصائر شؤونهم الخاصة معًا، وراضون تمامًا عن تجربة الحكم من القاعدة إلى القمة، بعكس أنموذج برج بابل القائم على الحكم من القمة إلى القاعدة؛ والذي لم يكن إلا كارثة ووبالا على الدول العربية في عالم ما بعد الاستعمار.