محتوى القدرات أم السياق ... أيهما أهم؟


طلال بن عبد الله البلوشي | مسقط
قد يمتلك أحدنا مستوى متقدم في إحدى المهارات المهمة والتي يمكن أن يتبوأ بها مكانة رفيعة في سلم الناجحين ، إلا أن حياته قد تنتهي به كأي إنسان عادي دون أن يلحظ موهبته أحد، وبالمقابل قد يبرز آخر لا يمتلك إلا مقداراً يسيراً من موهبة ما ليبدو كنجم لامع في مجاله، الفرق بين الشخصين يكمن في أن الأول وضع محتواه القيم – موهبته - في سياق عادي بينما حرص الثاني على وضع محتواه المتواضع في سياق متقدم أو ساعدته الظروف على فعل ذلك، وللتوضيح قد يظهر أحدهم مهارات متقدمة في التقديم التلفزيوني لكنه قد يضيع حياته بالعمل في قناة تلفزيونية مغمورة لا تشاهد إلا من قبل القليل من الناس، وبالتالي ينعكس ذلك السياق الضعيف للقناة التلفزيونية على المذيع سيء الحظ فيخفي ما لديه من مهارات، وقد يتكرر الموقف مع شخص آخر أقل مهارة لكنه قد أحسن أنتقاء القناة التلفزيونية فاختار قناة ذات جمهور واسع لينعكس ذلك عليه بالشهرة والانتشار.
في تجربة أجرتها واشنطن بوست في إحدى محطات المترو في العاصمة الأمريكية واشنطن بمشاركة الموسيقار "جوشوا بيل" أحد ألمع العازفين على آلة الكمان في العالم، والتي قام فيها "بيل" بعزف مقطوعات موسيقية من أرقى وأعقد المقطوعات لموسيقيين كبار، لم يقابل المارة عزفه الرائع إلا بالعزوف ، إذ بلغ عدد من توقف للاستماع إليه لفترة قصيرة من الوقت حوالي 6 أشخاص من أصل 1100 شخص مروا من أمامه دون أن يتوقفوا برهة، لم تنجح القطع الموسيقية الرائعة التي عزفها في جذبهم، كما لم يحدث عزفه على كمان بقيمة 3.5 مليون دولار أي فرق، في الوقت نفسه وقبل يومين تم بيع تذاكر حضور حفلته بأحد المسارح في بوسطن بمتوسط (100 دولار)، في التجربة السابقة المحتوى هو الموهبة الموسيقية الفذة في العزف على الكمان والتي يملكها بيل، بينما كان السياق الأول هو العزف بإحدى محطات مترو الأنفاق ، والسياق الثاني كان العزف بأحد المسارح ببوسطن، والنتيجة كما هو واضح أنه لم يكن هناك وجه مقارنة بين اهتمام الحضور في السياقين رغم تطابق المحتوى، والسؤال هنا لماذا اختلفت ردة الفعل رغم أن العازف كان نفسه هو العازف في الموقفين؟ وفي تجربة مماثلة من حيث النتائج، والتي نفذها لأعب كرة القدم الشهير "كرستيانو رونالدو" عندما تنكر في زي متشرد في أحد شوارع مدريد مقدماً أجمل ما لديه من حركات استعراضية فائقة بهدف اجتذاب اهتمام الناس من حوله، إلا أن محاولاته قوبلت بالتجاهل، لكن الوضع تغير بالكامل عندما خلع لحيته وشعره المستعارين كاشفاً عن هويته الحقيقية، مما جعل محاولة إخراجه من بين الحشود التي تجمهرت حوله بعد أن عرفوا من هو أمراً غاية في الصعوبة، في هذه التجربة كان المحتوى مهارة فائقة في لعب كرة القدم، السياق الأول متشرد في أحد طرق مدريد، أما في السياق الثاني لاعب ريال مدريد الأول، ورغم تشابه المحتوى في السياقين إلا أن ردة الفعل التي أظهرها الجمهور كانت مختلفة تماما، ويتكرر هنا نفس السؤال لماذا اختلفت ردة فعل الحضور؟ ببساطة غالبية الناس يقيمون المواهب والقدرات التي يمتلكها الأشخاص اعتماداً على المواضع التي يكونون فيها فإذا كان الموضع ذو قيمة ذهنية عالية لدى المجتمع أنعكس ذلك على صاحب الموهبة والعكس صحيح .
وينطبق الأمر نفسه على صناعة العلامات التجارية، إذ تكتسب السلعة أو الخدمة  وهي هنا تمثل المحتوى  قيمتها من العلامة التجارية التي هي بمثابة السياق بينما ينظر المستهلك بريبة إلى كل سلعة أو خدمة لا تحمل مسمى تجاري معروف مهما بلغ مستوى جودتها، فعلى صعيد الهواتف نجد من غير المنطقي مناقشة جودة منتجات شركات من مثل شركة أبل أو شركة سامسونج كون أن تلك المنتجات محتوى جيد وضع في سياق موثوق، ويتعدى الأمر ذلك عندما نتحدث عن المطاعم مثلاً نجد أن الأكلات السريعة وهي محتوى سيئ السمعة، يكاد لا يخلوا شارع من وجود مطعم يقدمها، والإقبال عليها كبير جداً، فقط لأنها تقدم في سياق مغري، و كنتيجة لتأطير عمليات إعدادها وتقديمها والعناية بأدق التفاصيل التي جعلت مثلاً شركة مثل شركة ماكدونالدز تنشئ كلية لتدريب طواقم العمل على كل ما يرتبط بتقديم الخدمة في أفرعها المنتشرة في كل بقاع العالم، بحيث أنك لا تجد اختلاف في جودة طعم وجباتها أو في مستوى الخدمة المقدمة سواء إن كانت تقدم في واشنطن أو تقدم هنا في مسقط، إذ تولي هذه المطاعم أهمية بالغة بالسياق الذي تقدم من خلاله وجباتها، ولعل التجربة التي قامت بها محلات  بيع الأحذية الرخيصة" PAYLESS" تثبت أهمية السياق مقارنة بأهمية المحتوى، إذ قامت بافتتاح محل فاخر في أحد المجمعات التجارية المرموقة وعرضت فيه نفس الأحذية الرخيصة التي اعتادت بيعها في محلاتها ولكن بمسميات مختلفة، ثم دعت عدد من المؤثرين في عالم الموضة لحفل الافتتاح ، وكانت المفاجأة كبيرة عندما شهدت تلك الأحذية المبالغ جداً في أسعارها أقبالاً من قبل الزبائن الذين اعتبروا أن أسعارها جيدة للغاية، ومن بين تلك الأحذية حذاء قيمته 35 دولار تم بيعه بقيمة 645 دولار، في هذه التجربة كان المحتوى متواضع وهي الأحذية الرخيصة بينما كان السياق فخماً وهو محل فاخر في مجمع تجاري راقٍ والذي جعل الناس يعطون قيمة أعلى للمحتوى بمجرد تغير السياق.
  وفي مجال الإدارة هناك العديد من الممارسات الإدارية التي تتصف بالفاعلية والكفاءة لا يلمع نجمها إلا عندما يقوم أحدهم بجمعها ووضعها في سياق يمنحها قيمة ويجعلها قابلة للاتجار بها كجزء من اقتصاد المعرفة، ومثال ذلك أنظمة الجودة مثل الأيزو و6 سيجما ونموذج التميز الأوربي، والتي محتواها عبارة عن مجموعة أدوات وأنشطة تمت ممارستها في عدة منظمات متفرقة ثم تم جمعها وتأطيرها كأنظمة لها مدخلاتها وعملياتها ومخرجاتها وقدمت وفق منطق يتيح لها العمل بسلاسة وانسيابية، وتم تسويقها للعالم لتدر على أصحابها الملايين،  بينما بقيت العديد من أنظمة العمل المتميزة في عالمنا العربي مثلاً والتي تنفذ في مؤسساتنا المحلية أسيرة سياقاتها الضعيفة المبعثرة.
والخلاصة إن المحتوى من أفكار ومواهب وقدرات يملكها الأفراد أو سلع وخدمات وممارسات إدارية تملكها المؤسسات مهما كان تميزها، لن يكتب لها النجاح ما لم توضع في سياق موثوق ومؤثر يقدمها بالطريقة التي تليق بها، وتزيد من قدرتها على المنافسة.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك