نحو الخلود (2-2)

 

عائشة بنت أحمد البلوشية

ثم تأتي الدائرة الثانية في أسرته من ذوي القربى من الدرجة التالية، يهتم بهم جميعًا ويمر على منازلهم منزلاً منزلاً دون كلل أو ملل، يتفقد أحوالهم بين الفينة والأخرى، ورغم القسوة التي يُحاول أو يظهرها للأطفال منِّا، إلا أننا كنَّا متأكدين من حبه الشديد لنا، والذي يظهر بسخائه في العيدية التي يمنحنا إياها، وكان رحمه الله يكن حباً خاصًا لجدتي الغالية -أطال الله في عُمرها- ويستشيرها في أمور كثيرة، وكم كنت أحب تلك الطريقة التي يقترب فيها رأساهما من بعضهما، ليسر أحدهما للآخر بحديث لا يجب أن يطلع عليه غيرهما، فقد كانت أطال الله في عمرها مستودعًا لأسراره.

 

رجلا أخفى زخم تقربه من خالقه حتى عن أقرب المُقربين منه، واهتم بالدائرة الأوسع في مجتمعه الذي يُحيط به، حيث سعى جاهدًا أن يوسع السكك الداخلية لشوارع القرية، تارة بإقناع الشخص المالك للضاحية الواقعة قرب الشارع، وأخرى بشراء تلك الأمتار، وكان يقف بنفسه على سير العمل حتى لا يتخاذل أي من العمال، فكم من مرة يمر به الناس ليرونه جالسًا على مُقدمة سيارته (البونيت) ممسكاً بالمصحف الشريف، كل ذلك ليوسع علينا المرور بمركباتنا بسلام، أسأل الله تعالى أن يوسع عليه في قبره، وفي دار المقامة.

عمر ركض بسنواته، بتفاصيل أيامه ما بين تلك الجمعة وأنا أقبل جبينه مودعة له على أمل لقائه في منزله بقرية العراقي، بينما أصر هو أن يودعني مؤكدًا على أنه اللقاء الأخير في الدنيا بقوله: (في وداعة الله عائشة)، وبين الجمعة التي تليها عندما التحف الثرى في رحلة إلى عالم الخلود، ذكريات ما بين ما سرده والدي لي من مواقف نبيلة، تفوق وقفات الخال لابن أخته بمراحل متقدمة جدًا، وأنه يرجع له الفضل بعد الله تعالى ليصل والدي إلى بدايات حلم الاتصالات والمورس والتلغراف، وما بين إبلاغه لي عن تدهور حالة خاله الصحية وأنني يجب أن أحضر نفسي للوصول للسلطنة في أي وقت يطلب مني.

طفقت أغتنم الثواني في تلك الزيارة الأخيرة، مستحثة ذاكرته ببعض التفاصيل ونظرات الوهن تُعانق جفنيه، في محاولة مني لأنشط تلك الذاكرة التي كانت تلملم ملفاتها استعدادًا للانتقال لعالم آخر، عالم أصدق وأوفى من عالمنا هذا، كنت متشككة في رده أو استجابته، فقد اتخذ من الصمت محرابًا يتعبد لله فيه، مستجيرا بجلاله ورحمته من شراسة الآلام المبرحة التي تقطع حنايا الحشا، متوشحاً بابتسامة رضا ترتسم على محياه البهي كلما دخل عليه زائر، قلت بصوت الابنة المحبة: أتذكر عندما ذهبنا قبل حوالي خمسة وثلاثين عامًا برفقتك وجدتي (أخته) وعمي وخليفة المعمري في رحلة من دلهي إلى كشمير؟، ومررنا بحقول التفاح، وكانت تلك المرة الأولى التي أشاهد فيها ثمار التفاح تتدلى وكأنها لآلئ، في منظر لم تألفه عيني قط، فطفولتي عرفتني على عذوق الخلال والبسر والرطب، والحمضيات بأنواعها، عندما تبللها رطوبة تباشير الصباح، فتنضر تحت خيوط أشعة الشمس، وتعبق روائح الخير منتشرة في الأجواء، ثم تتكئ تلك الثمار على بعضها البعض متناضدة عندما تلوح لقرص شمس الأصيل مودعة يومًا مرًا من حياتها، فكانت رؤيتي لثمار التفاح الخضراء في تلك الحقول الشاسعة شيئاً يجعل فضولي الطفولي يستيقظ كمارد المصباح، فمنظرها الرائع على ضفاف نهر شديد البرودة منحدر من أعلى الجبل، ويسري بجمال منقطع النظير، وكأنها لوحة غير حقيقية، ما جعلني أتقدم وأمد يدي وأقطف ثمرة صغيرة جدًا، لأتأكد من حقيقة وجود هذه التفاحات على تلك الشجرة، فما كان منك -رحمه الله- إلا أن زجرتني بلهجة حازمة مؤنبة فعلي، ولم يكن أمامي سوى الصمت، فما فعلته جريمة، لأني أخذت شيئًا ليس من حقي، ودون استئذان من صاحب الحقل، ولم ولن أنسى كلماتك ما حييت: (عن تبي تمغطي يدش على شيء ما حلش، إلا إذا راعيه راضي)، أي إياك أن تمدي يدك إلى أي شيء لا تملكينه إلا أن يسمح لك بذلك، كلمات اتخذتها دستورًا في حياتي كلها، لا أمد يدي إلى شيء ليس لي، ولا أركض وراء خبر لا علاقة لي به أو بعملي، بل أجتنب الظلم في كل قول وفعل بسبب زجرتك تلك، وقد علمت منذ عهد قريب فقط أنّ حقول التفاح تلك لها طقوسها لمن يملكونها، فمن غير المسموح أن يقطف أول ثمارها غيرهم وإلا فالفأل السيئ سيكون رفيق الموسم!، فتبسم محاولا الضحك، وبصيص حياة دبَّ في مُقلتيه متذكرا تلك الرحلة، فأخذني في تطواف جميل ما بين أحداث تلك الزيارة إلى الهند، ورفيق دربه الوفي خليفة المعمري معه، ثم قفزت به الذاكرة عندما سافر إليه هذا الرفيق الوفي عندما تمَّ نقله إلى ألمانيا للعلاج، وكم رآها لفتة نبيلة أن يتجشم مشاق السفر بأنواعها لزيارته، وأن يشد على يده ليستكمل العلاج، وأن يعود إلى العراقي التي اشتاقته بكل تفاصيلها الجميلة.

كم كان متعباً عام ٢٠١٨م في رحيل من أحببناهم وأحبونا، وصدقني أيها الغالي لن أعتذر لك على تأخري في الكتابة إليك وعنك، لأنَّ عذري بأن حجم الفاجعة كان أكبر من استيعابي لحقيقة ما حدث، فتتابع رحيل كبارنا كان يترك في قلبي كية من نار الفراق المؤلمة، وجاء رحيلك ليجعلني في حالة من يحاول مواساة نفسه وتعليلها بالصبر، أسأل الله تعالى أن يجمعنا بك في فردوسه الأعلى، وأن يرحمنا إذا صرنا إلى ما صرت إليه، وأن يغفر لجميع أموات المسلمين مغفرة عامة تامة.

 

__________________________

 

توقيع:

"يا راحِلاً وَجَميلُ الصَّبْرِ يَتْبَعُهُ..

هَلْ من سبيلٍ إلى لُقْياكَ يَتَّفِقُ

ما أنصَفَتْكَ جُفوني وهيَ دامِيَةٌ..

ولا وَفى لكَ قلبي وهو يحترِقُ"

ابن الفارض.