حوراء النّدّواي "تحتَ سماء كوبنهاغن" (5 – 5)


أ.د/ يوسف حطّيني | أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات
وتعدّ الميتاسردية(1) ظاهرة بالغة الوضوح في رواية "تحت سماء كوبنهاغن"، وإذا كنا قد أشرنا في بداية الدراسة إلى أنّ هدى (ب) بطلة الرواية خاطبت متلقي روايتها، في رسالة ثقافية واضحة الدلالة، فإنها استمرت في استحضار صورتهم في مواقف مختلفة، من أجل أن تحملهم رسالة موضوعية أو فنية؛ إذ تجعل نفسها على اتصال وانفصال بهم في الآن ذاته: "إن انتمائي إليكم لا يعدو الاسم والنسب. أما الشخصية والفكر والثقافة التي أحملها فتعدّ أشياء ذائبة في أخرى غريبة عنها لتصبّني في النهاية شيئاً مشوّهاً غير خالص"، ص22.
وهي تجعلهم شركاءها في الخطاب، بينما تجعل شركاءها في التجربة مادة لحكايتها، فهي تخاطبهم بقولها:  "من الذين أخاطب؟ ببساطة.. أنتم كل من هم ليسوا مثلي. أما من هم مثلي فأنا متأكدة من أنهم يسردون قصصهم من خلالي"، ص22.
وتجتاز الساردة في بعض الأحيان عتبة الموضوع نحو الفن، فتورد بعض الحكايات، وتتساءل عن جدواها، في لعبة فنية مثيرة، فحين تتحدث عن عماد، تتساءل: "لا أدري لماذا أخصص كل هذه السطور لحديث عن أخي! لا أدري! لم أتعمّد ذلك، إذ لطالما سارت بي حياتي حيث تريد هي لا حيث أريد أنا"، ص44.
وعندما تروي قصة نيكولاس لا تهتم بتسويغ حكايتها للمتلقين، تاركة لهم حرية ذلك: "قد تنفّركم قصة نيكولاس مني، لكوني ضربت طفلاً صغيراً، كل ذنبه أنه شقي. واعلموا أني بإمكاني شرح الأسباب التي دفعتني لذلك.. لكنني لن أفعل.. سأترك تحليل واقعة كهذه، وسبب سردي إياها لكم"، ص110.
وإذ تقرر الساردة القفز عن بعض الأحدث، والقفز مصطلح نقدي له مسوغاته وجمالياته، فإنها تعلن تمردها على تعاقبية الحدث وعلى مزاج المتلقين، فتقول: "ولا يحقّ لأحد انتقادي على التمرّد الحبكوي الذي أنا على وشكه. أنا حرة من قيود الأدب لأني لا أدعيه، وحرة من قيود الحبكة كوني لا أجيدها"، ص271.
ثم تساءل قراءها عما إذا أحسّوا بالمرارة بسبب قفزها على الأحداث مهددة إياهم بكشف نهاية حكايتها: "إذا ما لمست تذمراً من فعلتي هذه فإني سوف أفضح النهاية قبل وقتها"، ص274.
ومما لا شك فيه أن الكاتبة من خلال هذه التدخلات الميتاسردية تسعى إلى الخروج من حبكة تقليدية، نحو حبكة أكثر إثارة، وما تهديدها بإفساد بنية الرواية إلا إمعان في العمل على تطويرها.
* * *
تحيل لغة السرد في رواية "تحت سماء كوبنهاغن" لحوراء النداوي على كثير التناصات استناداً إلى المرجعيات الثقافية العربية والأجنبية، ابتداء من العتبة التي تحيل على المتنبي الذي يمثّل حالة وجد صوفي بالتاريخ والمكان للمؤلفة، فكأنها تتلبسه سائلة عن العراق وأهله مدركة ما يثير هذا البيت في نفوس قارئيه:
وكثيرٌ من السّؤال اشتياقٌ .... وكثيرٌ من ردّهِ تعليلُ
ويمارس المتنبي حضوره الآسر حين يتسلل مرة أخرى إلى لغة السرد عبر حدث قاسٍ يدهم ذاكرة رافد، وهو إعدام أخيه في الثامنة عشرة، لأنه "نضج وأصبح رجلاً خطيراً بما يكفي لكي يعدم"، ثم يتساءل: "أما كان الأجدر بالقدر أن ينتظر لأكبر أنا الآخر، وأمضي قدماً في عقدي الثاني، وأكون بهذا على قدر أهل العزم(2).
حلّت المصيبة فوق رأسي، فشعرت كأنني هرمت فجأة. ورغم كل الأعوام التي تراكمت فوق كتفيّ الفتيين لم أغد من أهل العزم الذين تفصّل العزائم على قدرهم"، ص49. ولأنّ رافد لم يكن من أهل العزم، فقد رأة نفسه، ربما، لا يليق بأن يعيش في وطن المتنبي، فآثر الغربة، والفرار نحو صقيع الشمال.
وإضافة إلى المتنبي يحضر القراآن الكريم، ليؤثر على صياغة الموقف الدرامي الذي عصف بقلب رافد، حين التقى بعاشقته ومعشوقته، مندهشاً من الطبيعة التي لم تعد صياغة نفسها من جديد:
"لماذا الطبيعة على طبيعتها ونحن نلتقي؟ لماذا لا تنفعل، ولا تثور، ولا تنفجر.. والسماء لا تمطر والأرض لا تفيض.. ثم الأرض لا تبلع والسماء لا تقلع، والماء لا يغيض، ولا وجود لجوديّ أتّكئ وإياها عليه"، ص179.
وواضح هنا أن الروائية تبني سردها على الآية الرابعة والأربعين من سورة هود، حيث يقول تعالى: "وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"، بينما تحيل الكاتبة في موقع آخر إلى آية الكرسي دون ذكرها، وتشير إلى الآية 140 من سورة آل عمران حين هدى ب تتحدث عن أمها في المطبخ:
"وكعادتها صباحاً كانت تشغّل المسجّل واضعة شريط قرآن فيه: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)"، ص374.
وفي الإشارات السابقة محاولات انتماء إلى جوّ ثقافي عربي إسلامي، يعززه جو ثقافي غربي تسعى الكاتبة (وربما الساردة العاجزة) إلى المواءمة بينهما، من خلال إحالات ثقافية متعددة إلى أدباء وفنانين، وإلى أجواء أسطورية باهرة، ومن ذلك إشارتها إلى رواية "ننغيالا" التي كتبتها الكاتبة السويدية أستريد ليند غرين(3)، وتتحدث عن جهود كارل ويوناتان في محاربة الشر، لتصبح ننغيالا رمزاً للفضيلة، تقول هدى: "في ننغيالا.. ما إن أغمض عيني حتى أصبح في ننغيالا، وسيكون بانتظاري كلّ سكانها هناك، ولا سيما كارل ويوناتان قلب الأسد.
في طفولتي قرأت قصتهما مراراً، وشاهدت الفيلم الذي صُنع على خلفية الكتاب مراتٍ لم أحصها. أحببتهما كثيراً، وبكيت في كل مرة كنت أقرأ قصتهما أو أشاهدهما يموتان"، ص ص100ـ101.
وهناك إشارة أخرى من هدى خلال حديثها عن التحوّل إلى الكاتب الدنماركي هانس كريستان أندرسن(4)، صاحب قصة فرخ البط القبيح الذي يتحول إلى بجعة رائعة الجمال، ص202، وإشارة إلى بيكاسو ومونيه. وثمة أيضاً إشارة إلى بجماليون من قبل رافد، حيث لا يتم التوقف عند حدود نقل الرمز الثقافي، بل محاورته:
"هل أصبحت مثل بجماليون(5)، أخلق تمثالاً فأقع في حبّه؟ صحيح أم وضعي مختلف لأني لم أقع في حب امرأة كاملة الأنوثة، بل تعلقت بطفلة أكتب عنها ما هو مجرد رواية"، ص116.
* * * * *
"تحت سماء  كوبتهاغن" هوامش عراقية تستند إلى لغة تبحث عن جذور تراثية عربية وإسلامية، وذاكرة تفرضها الأعراف والتقاليد المختزنة في ذهنية المجتمع العراقي الصغير في الغربة. ولكنّ هذه الهوامش تجابه متناً دنماركياً يتجلّى في حضور مكاني طاغ في السرد، ورغبة في الاندماج، يشوبها الحذر والخوف من الآخر.
...................
الهوامش:
(1)    الميتاسرد: نوع من الكتابة السّرديّة يتضمّن تخييلاً إضافيّاً فوق التّخييل الأصليّ، يتمثّل في تعليق النّصّ على نفسه، وفي طريقة السّرد وهويته، وهو يعبّر عن امتلاك النّصّ وعياً ذاتياً عبر كسر الحاجز بين الواقع والخيال. ويظهر ذلك عندما يقطع السّارد حبكة النّصّ ليشرح شيئاً معيناً، أو عندما يطلق أحكاماً على النّصّ، أو طريقة صياغته، أو التّقنيّات السّرديّة الأدبيّة أو غير ذلك. ويختلف هذا المصطلح عن تدخّل المؤلف الذي قد يكون فجّاً.
(2)      الإشارة واضحة إلى قول المتنبي: على قدْرِ أهلِ العزْمِ تأتي العزائمُ... وتاتي على قدْرِ الكرامِ المكارمُ
(3)      أستريد ليند غرين (1907-2002): مؤلفة وكاتبة سيناريو سويدية، من أعمالها: (القزم) و(جزيرة غراب البحر)، و(ننغيالا).
(4)      هانس كريستان أندرسن: كاتب دنماركي( 1805-1875)، يكتب الراويات اولمسرحيات، ولكنه اشتهر بكتابة القصص الخرافية، ومن أشهر قصصه (بائعة الكبريت)، و(عقلة الإصبع)، و(فرخ البط القبيح).
(5)      تعود شهرة اسم بجماليون إلى قصيدة سردية كتبها الشاعر الروماني أوفيد، حملت عنوان "التحولات"، ويصف فيها كيف أُغرم النحّات بجماليون بتمثال المرأة الذي نحته بنفسه.

 

تعليق عبر الفيس بوك