عند اختلاف المفكرين!

عبدالله العليان

الاختلاف بين المفكرين في الأفكار والرؤى والأيديولوجيات قد يؤدي لخلاف، وربما إلى خصومة دائمة وأبدية، ويسري حتى في المجال الإنساني البحت، الذي يفترض ألا يكون عائقاً في نسيان الخصومة الفكرية، وقرأت منذ فترة لأحد الكتاب المغاربة، أن المؤرخ والكاتب المغربي المعروف د. عبدالله العروي، لم يحضر جنازة المفكر د.محمد عابد الجابري، ولا قبل حضور تأبينه بعد ذلك، مع أن الكثير من الأكاديميين والباحثين من المغرب العربي ومن المشرق، حضروا تأبين الجابري، بينهم من له اختلاف فكري مع الجابري، من أمثال د.حسن حنفي، ود.عزمي بشارة وغيرهما، وهذه إشكالية قائمة، وربما تفسر ما يسمى في التراث العربي بـ"مسألة الضرائر"، عند الرجل الواحد الذي لديه زوجتان، وينشأ عنهما تحاسد الزوجات فيما بينهما، وهذه طبيعة بشرية خُلقية، لكن يفترض ألا يتعدى هذا الاختلاف إلى الإنسانيات التي يجب أن تكون بعيدة عن مجالات التشابك والتنافر والمقاطعة...إلخ، مع أن الجابري والعروي يتقاربان فكريًّا، في بداية مشوارهما السياسي والحزبي في المملكة المغربية، خاصة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والذي تحول للحزب الاشتراكي المغربي، إلى جانب التحول الفكري للجابري منذ سبعينيات القرن الماضي، فماذا جرى بينهما من اختلاف؟

درس عبد الله العروي في فرنسا في خمسينيات القرن الماضي، وتأثر بما سماها بـ"الماركسية التاريخانية"، مع ربطها بالمثالية الهيجلية، وهذه جاءت بعد هزيمة 1967، حيث اعتبرت بعض التيارات اليسارية أن المشروع القومي الناصري هزم، والبديل هو للماركسية -التاريخية التي هي رؤية للعروي- وهذه سيكون لها حديث آخر. وأصدر العروي أول كتبه بالفرنسية كتاب "الأيديولوجيا العربية"، وتبعه بكتاب "العرب والفكر التاريخ"، ومما دعا إليه المفكر والمؤرخ عبد الله العروي في هذه مؤلفاته هو "لقطيعة مع التراث"، ولا بد لنا في نظره لكي نخرج من "التأخر التاريخي" كما قال، أن نتبنى القطيعة الكلية أو الكبرى مع التراث العربي الإسلامي في عمومه، والدخول في الحداثة، وهو بهذا الرؤية التاريخية، يرى أن على الأمة أن تمر بمرحلة الليبرالية الأوروبية، ثم الماركسية التاريخانية، أو الماركسية الموضوعية، وللعروي الكثير من التعاريف حول رؤيته الفكرية، ولا تخرج الكثير من أراء الفلاسفة الغربيين، ومما قاله العروي في الرؤى الفكرية، للقطيعة مع التراث والأصالة...إلخ: "لا بد من الاختيار، من الفصل والحسم والجزم، إذ في الجزم يكون رفض ما هو تقليدي من كل النواحي". وفي فقرة أخرى يشدد د.العروي على قضية الحسم مع التراث "لا بد من الحسم اجتماعياً وسياسياً وفكرياً". ويعلق د. محمد الشيخ، على ما قاله د. العروي في قضية القطيعة مع التراث: "إن هذه دعوة جريئة ما وجدت دعوة أجرأ منها في الغرب ولا لدى العرب، وهذه القطيعة عنده هي "الشرط الأساسي لكل تقدم".

اختلف محمد عابد الجابري مع العروي، في قضايا فكرية عديدة، طرحها في كتابه "في غمار السياسة فكراُ وممارسة"، وتتعلق بالمنحى الفكري الذي أختطه العروي في المزج بين الماركسية التاريخانية، والمثالية الهيجلية، وقدم نقداً فلسفياً لمنهج العروي وتناقضاته، كما يراها الجابري، لكننا سنطرح خلافهما حول "القطيعة مع التراث"، الذي أيضا نقدها العديد من الباحثين والمفكرين، يقول الجابري في كتابه " نحن والتراث": يطرح بعض المثقفين العرب الذين يبدو أن صلتهم بـ"التراث" الأوروبي أقوى من صلته بالتراث العربي الإسلامي مشكلة استيعاب الفكر العربي المعاصر لمكتسبات الليبرالية "قبل, ومن دون أن يعيش مرحلة ليبرالية" ويقصدون بالليبرالية "النظام الفكري المتكامل الذي تكوّن في القرنين السابع عشر والثامن عشر والذي حاربت به الطبقة البورجوازية الأوروبية الفتية الأفكار والأنظمة الإقطاعية"، فالدكتور الجابري ينقد هذا القفز والارتماء لفكر الآخر، بدعوى التقدم، والولوج لعصر الأنوار والحداثة! فمقولة أن نكون نسخة كربونية من نموذج الآخر المختلف عنك لا يجعل منك حداثيا وتقدميا؛ فالفارق شاسع بيننا وبين ثقافة الغرب، كما أن المشكلات التي حدثت في الغرب ضد الرأسمالية، والصراع الطبقي الخ:، ليس له حاضن فكري، وهذا ما جعل الجابري ينقد ما قاله العروي، وأن هذا الاتباع هو تكريس للتبعية الفكرية، ويرى الجابري أن الطريق السليم للتعامل مع التراث فـ"طرح المسألة بهذا الشكل طرح خاطئ تماماً؛ ذلك لأنه عندما يطلب من العرب أن يستوعبوا الليبرالية الأوروبية، فإنَّ ذلك يعني أن عليهم أن يستعيدوا على صعيد وعيهم تراثاً أجنبيًّا عنهم بمواضيعه وإشكالياته ولغته؛ وبالتالي لا يشكل جزءاً من تاريخهم. إن الشعوب لا تستعيد في وعيها، ولا يمكن أن تستعيد إلا تراثها أو ما يتصل به، أما الجانب الإنساني العام في التراث البشري كله فهي تعيشه داخل تراثها لا خارجه".

فالخلاف بين الجابري والعروي، خلاف مشروع، رأي برأي، وليس نفي الآخر والإساءة إليه، وهذا بحد ذاته، ثراء للأفكار والرؤى التي تطرح، لتجلية الأفكار النيرة بعد فحصها ونقدها، دون تكون هناك ضغائن خصومات من جراء هذا الاختلاف الفكري بين المفكرين.