الثورة بلا قيادات (1)

 

محمد علي العوض

"آن أوان اعتماد صيغة جديدة للسياسة، فالصيغ القديمة أخفقت إخفاقا شنيعًا.. في الغرب الديمقراطية في أزمة.. في الصين وروسيا يترسخ نوع من الحكم الاستبدادي المرتبط بهيمنة الشركات وأصحاب المصالح. أمّا في الشرق الأوسط فتسود ألوان من الفوضى والعنف والقمع؛ ففي سورية تحول الأمر إلى حرب شاملة.. الانقسامات في المجتمعات بين الأديان والمعتقدات كما بين النخب والشعب لم يسبق لها أن كانت أعمق مما هي عليه اليوم).. هكذا يستهل الدبلوماسي البريطاني كارن روس كتابه "الثورة بلا قيادات: كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة وتغيير السياسة في القرن الواحد والعشرين" الذي صدرت ترجمته العربية عن سلسلة عالم المعرفة 2017.

الكتاب في مجمله دعوة إلى إعادة النظر لعالم السياسة وفق منظور جديد، وتمهيدا لهذه الفكرة وتلخيصا لها طرح كارن في عنوان الكتاب سؤالا شائكًا جداً، وهو هل: بإمكان القوى الشعبية العادية في القرن الواحد والعشرين أن تتولى السلطة خلافاً لما هو سائد الآن من تولي النخب والأحزاب والجماعات السياسية؛ في ظل إخفاق الصيغ السياسية القديمة التي لم تجلب للعالم سوى الدمار الحروب والتطرّف بجميع أشكاله؟ فمنطق السياسة المتمركز حول الدولة والسيادة والحدود...إلخ لم يعد المنطق الذي يستجيب لمتطلبات الحياة وأشواق الشعوب في عالم القرن الوحد والعشرين المُتسم باللا استقرار واللايقين والمعاناة؛ فليس ثمة رؤية واعدة لمستقبل أفضل، وما ادعاء الحكومات بتوفير الأمن والاستقرار إلا محض عرض زائف ومسكن مؤقت تكسب به الأنظمة الحاكمة مزيدًا من الزمن؛ وطالما أنّ القمع موجود فلن تتمخض عنه سوى المعارضة والمقاومة.

وحتى هذا الاستقرار الكذوب يصنفه كارن بأنّه باهظ الثمن فقد دُفِع في مقابله كم هائل من الأرواح والمعاناة الإنسانية؛ ولا يختلف كثيرا عن زعم الجماعات الدينية المتطرفة التي ترى أيضا أنّ طريقها هو السبيل الأوحد لخلاص العالم.. والحقيقة هي أن هذه النظرة الواحدة من كلا الجانبين نظرة شمولية تتناقض مع قيم الديمقراطية والتسامح ومفهوم الاختلاف؛ ولذلك تظل مرفوضة من قبل الأكثرية الساحقة في العالم العربي وخارجه.

في مقدمة كتابه يبين "كارن" الدوافع التي دفعته للكتابة، حيث يقول: في أثناء الربيع العربي التقيت شابا ثائرًا من مصر - ففي الغرب كثيرا ما صُورت احتجاجات "ميدان الحرية" على أنّها التماس للديمقراطية - فسألته عن سبب احتجاجه وعمّا يريده. فأجاب أنّه يريد وضع حد للحكم القائم؛ وديموقراطية غير التي بالغرب؛ فهي من وجه نظره ليست حقيقية، فقد سبق له أن رأى كيف جرى مسخ الديمقراطية المزعومة في الغرب وتحويلها إلى أداة لخدمة مصالح فئوية وجماعات ضغط معينة؛ قبل أن تصبح مهددة بخطر الوقوع في أيدي دجالي اليمين.

ويضيف كارن أنّه في الوقت هذا الذي يكتب فيه كتابه من عام 2017 كان الشاب يقبع في السجن بعيدا عن زوجته وأولاده، رغم أنه لم يكن يرغب في سوى ديمقراطية حقيقية، وحكم الشعب لنفسه.

حديث الشاب فتح أعين كارن على كيفية كذب الحكم في أعلى مستوياته وتلك الديمقراطية المزعومة، ويقول إنه من خلال تعامله مع المسألة العراقية وأسلحة الدمار الشامل قبل الغزو الأمريكي كان شاهدا على كذب حكومته وزملائه بشأن التهديد المزعوم الصادر من العراق؛ الأمر الذي نسف إيمانه بكفاءة الحكم في بلاده، فالحكومة غير قادرة على فهم عالم عالم القرن الواحد والعشرين ومن ثمّ التعامل معه.

وهو عالم -بحد وصفه- شديد التعقيد واللبس، يتفاعل فيه مليارات الأفراد مع بعضهم البعض. الكل يستجيب لأفعال الآخرين في سياق عملية ديناميكية دائمة متواصلة ساهمت العولمة في تسارع وتيرتها. فالنظام العالمي الآن نظام سائب سيّال، ليس مضبوطا ولكنّه ليس في حالة فوضى كاملة على الرغم من مظاهر هذه الفوضى أحيانًا؛ وبالأحرى هو موجود بين الانضباط والفوضى..

ويضيف كارن إنّه في ظل النظام المعقد من شأن حدث واحد أو فعل فردي واحد أن يحدث تغييرًا في النظام كله؛ التغيير يمكن أن يحدث بناءً على تصرفات أفراد أو جماعات صغيرة أو أحداث مفاجئة وطارئة؛ فحين أقدم محمد البوعزيزي على إحراق نفسه في إحدى البلدات التونسية الصغيرة تمخض عن فعله الفردي هذا زلزال الربيع العربي الذي خضّ منطقة هي في الأصل عُرضة لعدم الاستقرار جراء عقود طويلة من سوء الحكم والفساد؛ وفي ظل ظروف ومعطيات كهذه تستطيع أي قشة مهما صغرت قصم ظهر البعير.

فعالم اليوم ليس رقعة شطرنج يجلس أمامها القادة والحكومات لتحريك البيادق فيها وصولا إلى نتائج قابلة للتوقع؛ بل نحن بصدد أمر مختلف الآن، فقد انتهى العهد الذي كانت الحكومة تضغط فيه زراً لإحداث نتيجة معينة في بقعة ما من العالم، فالحكومات برغم قدرتها على مراقبة أدق تفاصيل حياة الناس وتحركاتهم، وامتلاكها قدرة القوة والتدمير، إلا أنّها تبدو أقل قدرة على التنبؤ بما سوف يحدث، لا سيّما في حالة مصادر التهديد المتزايدة مثل الإرهاب والكوارث البيئية والاهتزازات والخضّات الاجتماعية، حيث لم تَعُد قادرةً على معرفة النظام إلا لاحقاً وعلى نحو منقوص غير كامل.

وللتدليل على ما سبق يسوق كارن بعض الأمثلة من بينها:

أنّه قبل بضع سنوات لقي الواعظ الهندي من طائفة السيخ "ساند راما ناند" حتفه على يد ست رجال مسلحين في العاصمة النمساوية "فيينا"؛ وبعد موته بنحو ست ساعات فقط قضى آلاف الناس نحبهم بسبب اندلاع أحداث شغب في إقليم البنجاب مسقط رأس الواعظ، حيث تصادم السيخ مع الشرطة وأحرقوا المباني والسيارات وهوجمت القطارات وفقدت الحكومة سيطرتها تماما على الأمر بسبب غفلتها.

ويرى كارن أنّه من شبه المستحيل كفكفة الشبكة الواسعة من الأسباب والنتائج التي تشكل عملية التغيير في مثل هذه الأنظمة، والأسوأ من ذلك أن تحركات الحكومات من شأنها أن تفضي إلى نقيض ما هو مطلوب؛ بل إنّ محاولاتها أحيانًا تتسبب بإحداث مزيد من الفوضى والتعقيد.