تقرير دولي يحذر من "الذعر العالمي" والانزلاق نحو الركود

الرؤية- خاص

شهدت أسواق الأسهم العالمية في ديسمبر الماضي أسوأ حالاتها منذ أكثر من جيل، مما شكل خطراً تمثل في توجّه صنّاع السياسة نحو الإفراط في التصحيح والتخبّط لإعادة الوضع السياسي السابق الذي حاولوا التخلص منه في عام 2018. وبالفعل، قد يتسبب الذعر السياسي في حدوث انخفاض كبير في الأسواق خلال الربع الأول من هذا العام.

وبعد دراسة مستفيضة لأحداث الربع الأخير من عام 2018، أصبحتُ أكثر قناعة أن العالم أصبح على بعد مرحلة لا تتجاوز الستة أشهر عن الإصابة بذعرٍ سياسي عالمي ظهرت مؤشراته منذ الأيام الأولى لعام 2019. ما هي ملامح هذه الحالة؟ بعد ستة أشهر بالضبط على حديثهم حول انتهاء الأزمة، يبذل صنّاع السياسة قصارى جهدهم لدعم اقتصاد متهالك بوتيرة مطردة، بينما يترنّحون جراء أخطاء العقد الماضي.

ومع بداية عام 2019، تعود أوروبا مجدداً للانزلاق نحو الركود بالرغم من المعدلات السلبية لفائدة البنك المركزي الأوروبي، بينما بدت ألمانيا واسماؤها اللامعة فجأة في وسط مخاطر أكبر بكثير قياساً بالحكومة الشعبوية الإيطالية. وغاصت أستراليا في الفوضى السياسية والاقتصادية، بينما سمحت الهيئة الملكية للبنوك بتشديد معاييرها للإقراض في اقتصاد قائم على الإسكان بنسبة لا تقل عن 50%.

وقال ستين جاكوبسن كبير الاقتصاديين والرئيس التنفيذي لشؤون الاستثمار لدى ساكسو بنك إن أسواق الائتمان الأمريكية شهدت قدراً متزايداً من الضغوطات منذ أيام التداول الأولى في عام 2019، وصعدت هوامش العوائد المرتفعة في ’باركليز‘ أكثر من 500 نقطة أساس فوق سندات الخزانة الأمريكية. وتزامن ذلك مع توجه هابط لأسواق الأسهم من أعلى مستوياته في سبتمبر، حيث كشف جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، عن النسخة الأخيرة لبنك الاحتياطي الفدرالي في مقابلة جمعته على المنصة مع اثنين من أسلافه المساهمين في تشكيل الفقاعة. وبدى باول سخيفاً للغاية حيث جاء وعده بـ ’الإصغاء إلى احتياجات السوق‘ بعد أسبوعين من عرضه المتشدد خلال اجتماع اللجنة الفدرالية للأسواق المفتوحة في 20 ديسمبر.

وبالتالي، يبذل بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي قصارى جهده للفرملة، بينما جفّت التدفقات من إعادة توطين الشركات، وعجزت جهات الإصدار عالية الخطورة عن سداد الديون. ومن الواضح أن بنك الاحتياطي الفدرالي قد بالغ في ردود أفعاله، حيث أدت سياسته في التطبيع - بما في ذلك التضييق الكمي بقيمة 50 مليار دولار شهرياً وليس فقط رفع الأسعار - إلى إخماد جذوة التوجه المالي الكبير والذي دفع قدراً كبيراً من النمو غير المستدام لأرباح الشركات الأمريكية خلال العقد الماضي.

 

وبحسب التقرير الذي أعده جاكوبسن، لم تحزم الصين أمرها بعد بشأن خطتها التالية للتحفيز - تخفيض الضرائب، إعانات الرهن العقاري، تعزيز أسعار الرينمينبي - وتتساءل عن كيفية المضي قدماً نحو الذكرى السنوية المائة على تأسيسها في عام 2049، في الوقت الذي قامت فيه بتأجيل خطتها لعام 2025 إلى عام 2035. ولا تزال الروبية الهندية في حالة من عدم الاستقرار، لاسيما بعد سقوطها في الربع الثالث والبنك المركزي الهندي الذي فقد استقلاله. وسجلت اليابان في الربع الثالث نمواً سلبياً للناتج المحلي الإجمالي الاسمي – النمو الاسمي – بالرغم من زيادة الإنفاق على دورة الألعاب الأولمبية 2020 في طوكيو.

وفي الوقت نفسه، عانت المملكة المتحدة من أكبر انكماش في الدافع الائتماني قياساً بأي دولة أخرى، مما جعل النصف الأول من العام المقبل بمثابة خطر كبير على أصول المملكة المتحدة.

وتمثلت الدوافع الرئيسية لذلك في ’الفرسان الأربعة‘ الذين قمنا بتحديدهم خلال الربعين السابقين، ومارسوا الضغوطات على الأسواق العالمية لتتفاقم حالة التدهور الاقتصادي:

  • ارتفاع السعر العالمي للفائدة جراء تشديد بنك الاحتياطي الفدرالي إلى فروق أسعار عالية الخطورة.
  • انخفاض كمية الأموال الناجم ليس فقط عن تشديد بنك الاحتياطي الفدرالي، وإنما جراء انخفاض النمو في الميزانية العمومية من بنك اليابان والبنك المركزي الأوروبي.
  • انعكاس العولمة مع النزاع التجاري بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
  • تصاعد أسعار النفط العالمية قبل انخفاضها مؤخراً، والذي أصبح أكثر إيلاماً جراء قوة أسعار الدولار الأمريكي.

وتم تعليق دورة الأعمال منذ الأزمة المالية العالمية، واستبدلت بالدورة الائتمانية. وأدى التوجه المفرط نحو الائتمان إلى حشر الإنتاجية وأسعار الأصول المتضخمة، وكانت الفائدة ضئيلة جداً بالنسبة للاقتصاد الحقيقي، وأدت إلى أسوأ حالات عدم المساواة منذ أجيال. كما أدى سوء تسعير الفائدة والائتمانات إلى سوء توزيع رأس المال، وبقي المدينون غير المنتجين محافظين على وجودهم الشكلي لفترة طويلة جداً.

المزاج السائد في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا هو أسوأ ما شاهدته مؤخراً – ومن بينها الظروف التي أدت إلى أزمة عام 2008. ومع ذلك، يوجد إحساس جديد ومتزايد بمدى أهمية الأحداث، وتمت الاستعاضة عن الاستجابة التقليدية ’يمكن أن تصبح الأمور أكثر سوءاً‘ بأسئلة صريحة حول ما ينبغي فعله، ومدى الضرر الذي قد ينجم عن الحرب التجارية والنزعة الشعبوية. ويشير التحقق إلى مدى السوء الذي وصلت إليه الأمور، وأن الوضع سيتفاقم أكثر في حال لم يطرأ أي تغيير. وبالنظر إلى المنحنى، ينبغي أن نتساءل عما قد يسبب التغيير في الديناميكيات.

ويعد إصلاح أسعار الفائدة الحل الأكثر سهولة: عكست السوق بشكل كبير التشديد المتوقع من بنك الاحتياطي الفدرالي، وانخفض منحنى العائد الأمريكي بالكامل وبشكل حاد - وهو عامل شديد الأهمية حيث يتحكم بنك الاحتياطي الفدرالي بأسعار الفائدة حول العالم. ولا يعدو ذلك كونه مجرد دعم نفسي؛ حيث تعتبر أسعار الفائدة هي الأقل قوة بين الفرسان حيث أن القرب من الصفر يضعف إمكانات التحويل النقدية بمعدلات فائدة أقل. وخارج الولايات المتحدة الأمريكية، يوجد حيّز لسياسة تسعير فائدة أقل للعمل في معظم الحالات.

وتمثّل كمية المال العامل الأكثر أهمية؛ وحتى إن توجهت جميع البنوك المركزية الكبرى نحو تسهيل كامل قدراتها المالية، لن يظهر المستوى الفعلي لمدى تعزيز النشاط الاقتصادي إلا في الربع الثالث من هذا العام. وبعبارة أخرى، يستغرق انتقال الدافع الائتماني إلى الاقتصاد تسعة أشهر على الأقل، وربما أكثر، بناء على مستويات الدين في الدولة. وفيما يتعلق بالنمو المتجدد في كمية الأموال، سيكون بنك الاحتياطي الفدرالي بحاجة إلى عكس التشديد الكمي، وهو تحول من شأنه التسبب بموجة جديدة من الضيق للأسواق على غرار ما شهدناه في ديسمبر.

ومن بين الجوانب التي تدعو للتفاؤل في العام الجديد نذكر انخفاض أسعار الطاقة بالدولار الأمريكي في الربع الأخير إلى مستوياتها في عام 2017، بالرغم من أنها ما زالت شديدة التقلبات. ومع ذلك، سيمرّ بعض الوقت قبل أن يبدأ تأثير عامل التحفيز الجديد، بعد أن سجلت الأسعار قبل ثلاثة أشهر أعلى مستوياتها منذ عام 2014 - لاسيما عملات الأسواق الناشئة التي كانت ضعيفة للغاية في ذلك الوقت. وقد تبقى أسعار الطاقة منخفضة، لكن ’أوبك‘ والدول المنتجة من غير أعضاء ’أوبك‘ سيحاولون الحفاظ على عتبة سعرية لخام برنت عند 50 دولار للبرميل.

وفي الربع الأول من العام الجاري، يمكن أن يتحسن الوضع عبر مزيج من الإيقاف المؤقت لبنك الاحتياطي الفدرالي، وظهور مؤشرات هبوط من التشديد الكمي، مع مواصلة مساعي الصين لدفع أسعار عملتها نحو مزيد من القوة إلى 6.50 أو أفضل قياساً بالدولار. ويمكن أن تدفع الصين ثمن عملة أقوى بنسبة 5% لأنها تخفف أعباء ديون المؤسسات المملوكة للدولة والمقومة بالدولار، ويمكن أن تحقق دفعة كبيرة لحل المأزق التجاري. وفي الوقت نفسه، قد يؤدي اتخاذ مثل هذه الخطوة السياسية القوية من الصين، مع خلفية ضعيفة للدولار، إلى انتعاش كبير في أصول الأسواق الناشئة.

وفي النهاية، وفيما يتعلق بانعكاس العولمة، لا يوجد حل واضح وطويل الأمد، ولكن الاقتصاد العالمي يعاني، وقد تعرضت الأسواق العالمية لهزة جراء ظروف مريعة في عام 2018، وستبذل الصين قصارى جهدها لتحقيق الاستقرار. البحث عن حل يتم على قدم وساق، واحتمالات التوصل إلى حل تزداد بسرعة. ومن وجهة نظرنا، ينبغي التوصل إلى حل قبل 5 فبراير موعد رأس السنة الصينية الجديدة - وهو أمر بالغ الأهمية لجانبي النزاع التجاري بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. فالبديل رهيب جداً بكل بساطة.

وبعد احتفالات رأس السنة الصينية الجديدة، من المتوقع أن يتلقى الاقتصاد الصيني دعماً كبيراً، وهو أمر ضروري وحتمي. ومع ذلك، ينبغي علينا الحذر من الاضطرابات المقبلة، حيث قد تكون الاستجابة السياسية تفاعلية أكثر من كونها تنبؤية، وقد تأتي متأخرة جداً. وهذا يعني أن الربع الأول سيمثل المرحلة الأكثر خطورة، حيث سنشهد الانخفاض الدوري في الأصول والدورة الاقتصادية. وقد تشهد الأسواق في الربع الأول انخفاضاً كبيراً.

بمعنى آخر، يمكننا اعتبار مطلع عام 2019 مجرد علامة على بداية الدورة أو الجولات الأولى من دورة التدخل المقبلة. ومن المتوقع أن يكون عام 2020 سنة التغيير الحقيقي. وسيكون ذلك ملائماً للدورة السياسية، وقد يتطلب الأمر - للأسف - بث مزيد من الذعر في البنوك المركزية والسياسيين لدفعهم نحو التعاون والعمل معاً.

تعليق عبر الفيس بوك