ثقافة الاعتذار.. الدوافع والنتائج


د. سناء محمد جعفر | العراق

في أعراف البشر قيم أخلاقية نبيلة، يشتركون فيها اشتراكَهم في الحياة، ولدت من رحم التجارب والعلاقات الاجتماعية الكثيرة، منها ما عرف ابتداء، كالصدق والسماحة والبر، لكن بعضها لم يكن ليحيط به تصور الإنسان إلا بعد اقتراف الذنوب فهو كالصبح لا تبصره العيون إلا بعد الليل، وكالارتواء لا تدرك لذته إلا بعد الظمأ، كذلك الاعتذار لا تدرى قيمته إلا بعد الذنب . ولقد كان الاعتذار  في التراث العربي القديم من الفنون  البديعة وحظي باهتمام كثير من الادباء القدامى الذين برعوا في هذا الفن فنالوا الاعجاب بموروثهم الشعري والنثري. ومن ذلك ما نص عليه في وصية لأحد الحكماء لولده، إذ قال له: «يا بني  لا يعتذر  إليكَ أحد من الناس، كائنا من كان، صادقا كان أو كاذبا، إلَّلا قبلت عذره، فكفاك بالاعتذار بِرا من صديقكَ، وذلا من عدوك». وأفصح البحتري باعتذارية جميلة شعرا في هذه الأبيات:
اقبل معاذير من  يأتيكَ معتذرا
إن بر عندكَ فيما قال أو فجرا
//
فقدْ أطاعكَ منْ يرضِيكَ ظاهره
وقد أضلك من يعصيكَ مستترا
//
خيرُ الخليلينِ من أغضى لصاحبهِ
ولو أراد انتصارا ا منه لانتصرا

وكلنا نعلم أن الخطأ سمة من سمات البشر، وكل إنسان معرض للخطأ فهو مجبول عليه بطبعه وليس من العيب ان يخطئ الإنسان، ولكن العيب والخطأ الأكبر هو التمادي والاستمرار في ذلك الخطأ. كما ورد في الحديث: (كل بني ادم خطاء وخير الخطائيين التوابون ). ومن اعظم الاخطاء على الاطلاق  هو الخطأ مع الله عز وجل والذي يقابله استغفار وتوبة نصوح، والتي تعتبر أسمى مراتب الاعتذار، فالتوبة هنا أسف وندم مقرون بتعهد على عدم الرجوع لهذا الخطأ مجدداً، يقول الله عز وجل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). الزمر:3. ومن هنا دعوة للحوار والنقاش  دعوة لجعل ثقافة الاعتذار جزءا أساسيا من مكونات الثقافة الفكرية للافراد والمجتمعات؛ فالاعتذار سلوك حضاري ومهارة اجتماعية تزيد من الألفة والمحبة والتقارب بين جميع أفراد المجتمع.،وهو بحق فن إنساني لا يتقنه جميع البشر، رغم أنه لا يتطلب علماً أو ثقافةً كبيرين، بل شيء من أدب وتواضع، وقدرة على كبح جماح النفس الأمارة بالسوء، وقد حث ديننا الإسلامي الحنيف على التوبة والاعتذار بجميع مفرداتها ومشتقاتها، وكان الانبياء والرسل من اوائل البشر الذين سارعوا للاعتراف بأخطائهم والاعتذار عنها.  
 فنبي الله موسى عليه السلام بعد أن وكز الرجل بعصاه فقتله: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15]، نراه يحس بخطأه ويعترف به، ثم يقدم الاعتذا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [القصص: 16]. وكذلك الحال مع  آدم عليه السلام: اعترف بذنبه عندما أخطأ هو وزوجه وأكلا من الشجرة المحرمة: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] والاعتذار  بحسب سايكولوجيه البشر له انواع متعددة منها:
(اعتذار صريح) ؛ نابع من نفس راقية ومتزنة فكريا ونفسيا.
مقرة  بخطئها ومتخذة من الاعتذار منهاجا لها.
(اعتذار شكلي) وغالباً ما يكون رفعاً للعتب، لكنه بالعموم غير صادق.
(اعتذار مجاملة) ويهدف لمجاملة شخص ما عن خطأ بسيط قد لا يستدعي الإعتذار وعلى الاغلب يكون بهدف لفت الانتباه.
(اعتذار مجادلة): هو اعتذار يصاحبه جدال لا يعترف بالخطأ، ويسعى لتبريره، وربما يكون اعترافا جزئياً بالخطأ أو رفعاً للعتب.
(اعتذار المكره): يكون بناء على خشية من سلطة أو قضاء أو أشخاص ذوي نفوذ، أو تجنباً لخسارة شخص ما أو تلافي عقوبة.
(اعتذار عام:) اعتذار يسعى لكسب شعبية وهو الذي تقدمه شخصيات اعتبارية كالزعماء والمسؤولين، أو مؤسسات على صلة بالدولة والمجتمع.. وعلى مستوى الدول نرى ان الدول  وخاصةالغربية قد اعتمدت  الاعتذار صفة رسمية لسياستها فمثلاً: اليابان اعتذرت للدول التي احتلتها في جنوب شرق آسيا، واعتذرت كذلك عن ممارساتها الوحشية تجاه أسرى الحرب البريطانيين آنذاك، وفرنسا اعتذرت عن ماضيها الإجرامي في الجزائر وتقدمت باعتذار رسمي لدولة الجزائر، والولايات المتحدة تقدمت باعتذار رسمي لقارة أفريقيا عن ممارستها لعدة قرون من الزمن لتجارة العبيد.
نحن بحاجة كبيرة لنشر ثقافة الاعتذار في مجتمعنا، فحين نربي أبناءنا يجب ان نُعودهم على كلمات ومفردات التواضع والاعتذار ومن ثم نعلمهم كيفية الاعتذار فهذا بلا شك يستوجب منا الإشادة بتصرف الطفل أمام الآخرين وتعزيز تلك الفضيلة فيه. وقبل ذلك يجب أن يغير الآباء والمعلمين والمسئولين من سلوكهم ويكتسبوا هذه الصفة كدليل على التحضر والرقي ويكونوا قدوة للأجيال القادمة.. ومثلما أن الاعتذار ضروري وواجب، فإن قبول الاعتذار والصفح أوجب، لأنه خلق النبلاء وقبول اعتذار المعتذر لا يعني قبولاً بالأمر الواقع أو ابتلاعاً للإهانة، بل تسامح وإنصاف وحفظ للود وروابط الأخوة والصداقة.كما هي الحال في حالة الوالدين فإن قبول اعتذار الأبناء هو مساعدة لهم على البر بهما.
وأخيرا: الاعتذار هو العطر الفواح الجميل الذي يحوّل أكثر اللحظات انكسارا الى هدية مقبولة تحظى بالقبول والتقليد لاحقا! ليت مناهجنا ومقرراتنا الدراسية تدخل ضمن مناهجها هذا الأمر الحيوي.

 

تعليق عبر الفيس بوك