جدّة البلاد


رشيدة المراسي | تونس

في هذه البلاد البسيطة
جدّة مازالت تحتفظ بأواني فخارها القديمة
ونسّاج عتيق استوطن الحيّ الصغير
في قبو المدينة المعمور
يغزل الأغنيات
بألوان قرمزية ونيلية
لفلاّحات كبر على أيديهن القمر
وسنابل قمح حالمة وأشجار زيتون معمّرة
في هذه البلاد العتيقة جدا
يرقد الحلم
كأعواد الثقاب في علبة الكبريت
ينتظر مرور آخر قافلة لسياح أجانب
ليسرقوا ما تبقّى من قرص شمسها
ليخيطوا منه معاطف شتوية لبردهم القارس
و يصنعوا منه قالب جبنة كبير
يوزّعونه على رجالات دينهم وعلى حاخاماتهم ليعمّروا طويلا
و يكفروا بعصر الشيخوخة
واعترافا بالجميل
تستقبل هذي البلاد
شحنة كبيرة من حبوب منع الحمل
على شكل قروض ميسّرة
لتحسين جودة النوع وحفظه من التلاشي والضياع
في هذه البلاد الصغيرة
يرقد الصّمت ويفرّخ آلاف الموسوعات لعلوم الأرض وعن طبيعة مناخاتها
و عند جذع كل شجرة زيتون
تعلّق لافتة كبيرة كتب عليها:
أن زيت الزيتون لا يُنصح به لدواعي المحافظة على الرشاقة
وأنه أحد الأسباب الرئيسية للإسهال وداء الرّبو المزمن
وفي مدخل واحات البلاد
ترتفع لافتات ضخمة
كتب عليها بالخط الأحمر العريض:
أن التمر وجميع مشتقات البلح يُسبّب عسر الهضم
وأنه يزيد من داء البدانة
كما لا ينصح به لجميع مرضى السكري والضغط
وكردة فعل بيئية
يخطر بذهن شجرة الزيتون أن تحبل في غير موسمها
وأن يُضرِب النخيل عن النظر إلى الأرض
آخر مرة سقط الفلاح من علو النخلة وتلاشى
كان أبرع متسلّق تعرفه نخلات الواحة
ولازالت الحادثة مضرب أمثال عند العامة
فالنخلة في عرفهم وليّة صالحة وعرّافة وتغضب
هذي البلاد تجلس على ضوء شمعة كل ليلة
لتقصّ حكاياتها على الرب لأنها تعيش زمن اختراع صفة
ولأن الأطفال كبروا خارج حضنها
ناموا على حدود أكبر مركبة فضائية في العالم
ليتعلموا طقوس الحلم والطيران بلا أجنحة
قالت لي ذات يوم أن الأولاد ما عادوا أبرياء
وأن الكتب العجيبة التي يقرؤونها
قد سرقت مركز أحلامهم كاملا من منطقة الناصية
فماتت الحكاية وأخذت معها روح النسل الشريف
إستغربتُ أن تأتي الجدة بخلاصة الحكمة
لعالم الجغرافيا النووية في ظلام هذا الليل البارد
ولكن فاتني أنها مازالت على لقائها الليلي بالإله
وأنها مازالت تشاوره وتحاوره في أمور الدنيا
وأنه مازال على عهده يأخذ بكلامها ويعمل به
شكت لي ذات يوم من حفيدها الوحيد
الذي وعدها بزيارة ولكنه خالف الوعد
وقالت بحسرة أن الرجولة صارت عملة صعبة في سوق الخردة
وأن الرجل الشجاع الذي كان يُؤخذ من طرف لسانه قد مات
دُهشتُ من كلام الجدة الثوري فأخفيت عنها سر غيابه وزواجه من ناتاشا
وأنه سافر إلى بلاد الثلج ليبحث عن مأوى
ليتعلّم طقوس الحب كممارسة لائقة على سطح نهر الفولغا
وكيف يكون الدفء في عرين الثلج محرقة لذوبان آخر رجل إفريقي على وجه الأرض
نسيت أن أعلمها أن أخبارا يتم تداولها على مدار الساعة
بأن الأطفال قد توقّفوا عن النموّ الذهني وأنهم تحوّلوا تدريجيا إلى أشباح
على شاطئ بحر الحوت الأزرق في المياه الإقليمية والدولية
ولكني تعمّدت ألاّ أخبرها بأني قد أدمنت دخان السجائر
احتجاجا على سوداوية الطقس وعلى خيبة عالم الأشباح
ولأن سكّان المدن يا جدتي لا يحبّون أخلاق الفلاّحات
وأنهم يكرهون صورة الصبّار حين يتجوّل في المدينة
كلّما أطرقت بسمعي إلى رواياتها أراها تُطيل النظر في عينيّ وتلوذ بسمعي وتبتسم
كما لو كنت، في حضنها، آخر طفلة تسرد على كفّها حكاياتها الأخيرة
وكأني آخر نطفة من نسلها في صفحة تراثها الخالد
هذه بلاد قتلت جدّتي وباعت شمس قريتها وزيتونها ونخيلها
هذي بلاد تحبل كثيرا ولكنها تجهض
وكلّما ثقل حملها
تتعسّر ولاداتها
وككل مرة، تموت الأجنّة مستشهدة
على يدي قابلة مازالت تحلم ببلاد الثلج وعنب الليالي

 

تعليق عبر الفيس بوك