حي بن يقظان (3)

خافت على وليدها "حي" من أخيها الملك فوضعته في التابوت ثمّ ألقته في اليم.. تمامًا كأم موسى

 

مُحمَّد علي العوض

يحضر الفضاء المكاني في الاشتغال السردي بوصفه مكونا استراتيجيا لا غنى عنه في كل عمل حكائي. فكل فعل يقوم به فاعل ما في الحكاية لابد له من زمن يحتويه وفضاء يؤطره؛ لأن الفضاء لا ينعزل عن الفاعلين أو الشخوص بل هو مداهم الذي يتحركون فيه.

ولا يتحقق في القصة أو الرواية بصريا كما في السينما والمسرح بل يتوسل فيه المؤلف أبعاد اللغة؛ لذلك يشدد المهتمون بدراسات الفضاء والمكان في الرواية على الطابع اللساني الذي يتحقق من خلاله تقديم الفضاء في الأعمال الحكائيّة.

بالرجوع إلى قصة "حي بن يقظان" نجد أنّ "ابن طفيل" اختار ثلاث جُزر أمكنةً ومسرحا لأحداث قصته؛ أولاها "جزيرة عظيمة متّسعة الأكناف، كثيرة الفوائد، عامرة بالناس، كان يملكها رجل منهم شديد الأنفة والغيرة).. في هذه الجزيرة أنجبت شقيقته ابنها "حيّ بن يقظان" قبل أن تضعه في تابوت، ثم تلقيه في اليم، فيحتمله الماء إلى ساحل جزيرة الواقواق حيث عاش (حي) حتى أتاه اليقين"، وبرغم أنه مكان شهد ولادة حي ومنشأ أهله، إلا أنّه ظلّ مكانا عابرا، يرد ذكره في أول القصة فقط ولا يرد بعدها.

ثاني الأمكنة هو جزيرة الواقواق التي احتضنت بن يقظان في سنين نشأته الأولى. وهي المكان الأهم في القصة؛ فقد شهدت أغلب أحداث القص، وصارت "نقطة إدماج في المكان". حيث حاول "ابن طفيل" على الرغم من غرائبية القصة إيهام المتلقي بواقعيتها حينما استشهد بالمؤرخ والجغرافي الشهير "المسعودي" لتأكيد أنّ الجزيرة اسمها "الواقواق" ولتأكيد ذلك وإضافة مسحة واقعية أخرى على القصة استعان بالوصف الجغرافي؛ فوصف الجزيرة بأنّها "جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء".

ضمت الجزيرة -نفسها- عددًا من الفضاءات المحركة والحاوية لأحداث السرد؛ فهناك التابوت الذي حمله اليم إليها، وهناك الأجمة الكثيفة، والمراعي الخصيبة، وتجويف الظبية، ومسكن حي.

فالتابوت والأجمة والمراعي الخصيبة كانت فضاءات عابرة وفرت الحماية والنمو للطفل "حي بن يقظان" ويقدم "ابن طفيل" التابوت بوصفه وسيلة عبور لليم، وتنهض الأجمة من خلال الوصف (ملتفّة الشجر، عذبة التربة، مستورة من الرياح والمطر، محجوبة عن الشمس، تزّاور عنها إذا طلعت وتميل إذا غربت) مؤشرًا على الرعاية والحماية، وتذكرنا دلالة الأجمة باستصحاب مفردة "تزّاور" بقصة أهل الكهف الذين فروا بدينهم من الملك الكافر الظالم؛ فكانت المغارة عاملا مساعدا وحصنا مانعا لهم من أن تطالهم يد الملك.

وبالطبع تشترك "المراعي الخصبة" مع الفضاءين السابقين في خدمة الوظيفة المركزية التي حددها "ابن طفيل" وهي ووظيفة العامل الحامي والمساعد، فقد وفرت تلك المراعي الغذاء للظبية أولا عندما كانت ترعي بلبنها وقرنيها "حي" وهو طفل صغير، ثمّ وفرت له الغذاء والثمار والمعرفة حينما قوي عوده.

أمّا صدر الظبية، فقد مثّل كما يقول إبراهيم الحجري "فضاءات يعود إليها البطل (حي بن يقظان) طمعا في جواب شافٍ على أسئلة ظلت تؤرقه من قبيل البحث عن سبب موت الظبية، واكتشاف النار، والصعود عبر مقامات التأمل، والعودة إلى الواقع المحسوس" ويصفها بأنّها مقامات فضائية تفتح بصيرة حي بن يقظان على الفهم ومحاولة تلمّس منطق العالم، والوصول إلى الحقيقة المفتقَدة التي ظل يكابد من أجل أن يبلغها بشكل عصامي دون اعتماد أية مرجعية.

وكذلك ينهض مسكن حي ملاذا للحماية حيث اتخذه "مخزنا وبيتا لفضلة غذائه، وحصن عليه بباب من القصب المربوط بعضه إلى بعض؛ لئلا يصل إليه شيء من الحيوانات عند مغيبه عن تلك الجهة في بعض شؤونه" وللاتقاء كذلك من أحوال المناخ وكخلوة تأمل ومعتكفا.

أما ثالث الأمكنة فهي الجزيرة التي قدم منها رفيقه "أبسال" الشخصية الثانية في الرواية، ويحكمها سلامان. وقد (انتقلت إليها ملة من الملل الصحيحة المأخوذة على بعض الأنبياء المتقدمين صلوات الله عليهم).

وتتمثل القيمة الرمزية لهذا المكان في القصة أنّ "أبسال" كان نقطة تحول لشخصية حي بن يقظان، فأبسال فوق بذله المعرفة لحي بن يقظان فهو يوافق الباطن الميتافيزيقي بينما يمثل حي بن يقظان العقل الواصل إلى المعرفة عن طريق الملاحظة والقياس والاستنتاج، وكأن ابن طفيل يريد الإشارة إلى تكاملية المعرفة الناجمة عن توافق بين العقلي "بن يقظان" والروحي "أبسال"، وقد أتاحت زيارة تلك الجزيرة لحي بن يقظان فضيلة الاحتكاك بالناس والاطلاع على معارف وعوالم أخرى قبل أن يعود بصحبة رفيقه "أبسال" إلى جزيرة الواقواق.

التناص القرآني في القصة أسهم في تأسيس بنيتها الفكرية وجماليتها اللغوية، حيث تقابلك مفردات وتراكيب عدة تتماهى مع النص المقدس ومن ذلك: "... فرأى كل حزب بما لديهم فرحون، قد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم وشهواتهم، وتهالكوا في جمع حطام الدنيا، ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر لا تنجح فيهم المواعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة"، ونلاحظ في هذا المقطع أنّ لغة القرآن الكريم وآياته شكلت صلب الوحدات السردية فتركيب جملة "كل حزب بما لديهم فرحون" يحيلنا إلى الآية 53 في سورة "المؤمنون"، ويحيلنا المقطع "قد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم وشهواتهم" إلى الآية "أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا" سورة الفرقان آية 43. أمّا جملة "ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر" التي تحول فيها الصيغة من ضمير المخاطبين إلى ضمير الغائبين فتتناص مع الآيتين الأوليين من سورة التكاثر. وكذلك كانت مفردة تزّاور التي أشرنا إليها آنفا في تناصها مع آية أصحاب الكهف.

كذلك نلاحظ تأثر "ابن طفيل" بالقص القرآني؛ فحينما خافت أم "حي بن يقظان" من أخيها الملك فعلت ما فعلته أم سيدنا موسى حين وضعت وليدها في التابوت ثم ألقته في اليم: "وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين" (القصص:7).

ويتضح هذا التأثر القرآني أيضًا في مشهد "حي بن يقظان" ودفن أمّه الظبية حينما حاكى الطير وهو يدفن موتاه (ثم إنّه سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتًا، ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب، فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه وإن كان قد أساء في قتله إيّاه! وأنا كنت أحق بالاهتداء إلى هذا الفعل بأمي! فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه وحثا عليها) حيث يحيلنا هذا المقطع إلى مشهد قتل قابيل لهابيل، وتحيّره في كيفية مواراة جثّة أخيه، "فبعث اللَّه غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النّادمين" (المائدة:31).