هل نحن بحاجة لمؤسسات مالية إسلامية؟

جمال النوفلي

في بداية القرن العشرين، كان العالمُ العربيُّ -والعالم الشرقي عامة- يرزح تحت وطأة الاستعمار الغربي، الغرب الذين كانوا في تلك الفترة قد بلغوا من التقدُّم والرفاهية ما لا يُمكن أن تتصوره المجتمعات العربية التي كانت رهن التخلف: الفكري، والثقافي، والعلمي، والصناعي، كان الوطن العربي في حالة من الجمود التاريخي؛ حيث ظلَّ قابعا على نفسه يجترُّ ما لديه من كتب ومجامع ودواوين ومخطوطات تعيد ما تم كتابته في القرون الأولى من العهد الإسلامي؛ حيث كان العلم والمعرفة لدى العرب في هذه الفترة يعني حفظ مُتون الروايات وكتب الفقه والعقيدة واللغة، وأقوايل العلماء والأئمة والفقهاء السابقين.

وَقد كان جميع ما يتم إنتاجه من معرفة لا يخرج عن دائرة التعاليم الدينية القديمة؛ لذلك لم يكن هناك أي تقدُّم فكري يُرجَى منه تطور في الصناعة والتجارة والحياة، وكان الأمر سيظل على هذه الحال حتى يومنا هذا لولا أن الصراع بين الدول الغربية أخذ منحًى من التطور والتصاعد؛ فصاروا يتنافسون من أجل الوصول للقوة والسلطة العظمى على سائر الدول المتنافسة؛ لذلك كان التوسُّع الجغرافي واستعمار البلدان البعيدة، واستغلال ثرواتها إحدى أهم ركائز القوة والمكانة الدولية التي جَعَلتهم ينتقلون إلى العالم العربي وغيره من البلدان، وهي الأسباب ذاتها التي دعتْ الملك البرتغالي مانويل الأول في القرن الخامس عشر إلى إرسال المستشكف فاسكودوجاما لاكتشاف منطقة المحيط الهندي التي كان العُمانيون والعرب يتحكمون في تجارتها، بحارة فاسكودوجاما الذين ما كان لهم أن يعبُروا رأس الرجاء الصالح والوصول للمنطقة لولا التقائهم ببحارة عُمانيين؛ منهم: البحار العُماني أحمد بن ماجد، الذي قام بتوجيههم إلى الطريق الجديد للتجارة العالمية، الطريق الذي أصبح سالكا وواضحا لقدوم البوكيرك بأساطيله الحربية لاستعمار السواحل العربية والآسيوية، والانتقام من المسلمين كما ذكروا ذلك في مذكراتهم. على العموم، حين جاء هؤلاء الغربيون إلى بُلداننا وجدوها قفرا يبابا لا تملك شيئا من المدنية غير ما كانت تملكه منذ آلاف السنين؛ لهذا اضطروا أنْ يحضِروا معهم آلاتهم وأجهزتهم ومعارفهم وعلماءهم، كما فعل نابليون بونابرت أثناء غزوه لمصر.

وبغضِّ النظر عن الغايات السيئة وغير الإنسانية خلف الحملات الاستعمارية الغربية للأوطان العربية والمسلمة، إلا أنَّ هذا الاستعمار أفاد المسلمين والعرب أيما إفادة من خلال نقل آخر ما توصلت إليه العلوم  الغربية الحديثة من أدوات ووسائل وطرق تحسِّن من نمط العيش لدى الناس، وتسهِّل لهم طرقَ استغلال مواردهم الطيبيعية. وعلى الرغم من أنَّ الاستعمار الغربي ظلَّ مهيمنًا على العالم العربي حتى نهاية القرن المنصرم، إلا أن العرب لم يستطيعوا أن يستفيدوا من علومه ومعارفه، ولم يستطيعوا أن يبتكروا ويخترعوا أيًّا من الأدوات والأنظمة التي تحسِّن من أوضاعهم وتطوِّر من حَياتهم، وأبعد ما وصلوا إليه هو أنهم أخذوا يعرّبون الأدوات والعلوم، ويؤسلمونها بما يتوافق مع خلفيتهم العربية والإسلامية، مثلا: يستوردون الميكرفون ويسمونه مذياع، ويستخدمونه في أغراض دينية كالنداء للصلوات الخمس وإلقاء المحاضرات والدعاء ضد الغرب، وهذا شيء لا غَضَاضة فيه كبداية للنهوض بالأمة من سُباتها، وتعريفها بما لدى الآخر، لكن أن يظل الوضع كما هو عليه حتى اليوم فإنَّ هذا غير مقبول.

والبنوك الإسلامية حالها كحال سائر الأدوات المستوردة من العالم المتقدم؛ فالمستعمر كان بحاجة ماسة لوجود بنوك ونقود ومصارف تسهل عليه تجارته وتحافظ على أمواله ونقوده، فكانت كل دولة تأتي بفرع أو فرعين من بنوكها الوطنية لتغطية العمليات المصرفية، وكان للعرب والمسلمين أن يستفيدوا من هذه البنوك والتي فُتِحَت لها لاحقا فروع عديدة وتوسَّعت، ثم انتشرت أسواق البنوك في الوطن العربي، وصارت هناك بنوك بأموال محلية وبنوك غربية، وجميعها قائم على النظام المصرفي الغربي، ثم انتبه المسلمون إلى أن هذه البنوك لا تتعامل إلا بالفائدة، وأن الفائدة محرَّمة في الشرع الإسلامي، وأنه يجب أن تكون هناك مُؤسسات وبنوك إسلامية بعيدة كل البعد عن التعاملات الربوية المحرمة. فكانت النداءات من أجل إيجاد طرق تمويلية إسلامية مستقلة، إلا أنها واجهت مشكلة كبيرة؛ وهي أن العقل العربي فقد إمكانيته العلمية والإبداعية؛ حيث يعتبرون الخلق والابداع هي من صفات وأفعال الله التي لا يجوز أن يُنازعه فيها البشر؛ لذا كانوا غير قادرين على ابتكار نُظُم مصرفية مستقلة عن النظام المصرفي العالمي المبني على التعامل بالفائدة، لقد كانت هناك بعض المحاولات الزراعية المحدودة في تأسيس جميعات ادخار وتمويل، إلا أنها كانت دائما تبُوء بالفشل، ولا تستمر، حتى اقتنع المؤسسون بأن ليس هناك بُد من البناء على النظام الغربي القائم، فصَاروا إلى أسلمة المعاملات في البنوك التجارية بتغيير شكلها وعقودها، وتحويل مسمياتها بما يتوافق مع الشريعة الاسلامية، ثم تطوَّر الأمر حتى صارت هناك بنوك إسلامية مستقلة، وأصبحت بعض الدول الإسلامية تتبنى التعاليم الإسلامية في بنوكها المركزية، كما صارت هناك مؤسسات ومراكز تُعنى بمراجعة ومتابعة ودعم هذه البنوك.

لكن: هل كان العالم العربي والإسلامي فعلا بحاجة لمؤسسات مالية إسلامية؟ أي ماذا سيحصل لو لم تكن هناك أي بنوك إسلامية؟ وهل تحسَّنت الأوضاع الاقتصادية في البلدان التي تبنت العمل بنظام المالية الإسلامية؟ وهل تأخرت وتخلفت الدول التي لم تعمل بالنظام المالي الإسلامي؟ كل ذلك سوف نتناوله في مقالنا في الأسبوع المقبل من خلال عرض تجارب بعض الدول.

تعليق عبر الفيس بوك