حي بن يقظان (2)

 

 

محمد علي العوض

 

تعكس جملة "وقلبها يحترق صبابةً" الأبعاد السيكولوجية للشخصيّة وفؤادها المفطور كأم موسى

 

يشكل نص "حي بن يقظان" نقطة تقاطع لصيغ خطابية متعددة -سنعرض لها في حينها- كصيغة الخطاب الديني، والفلسفي، والعلمي، والخطاب الأدبي والسردي؛ ويمكن القول هنا بعجالة؛ وأنت تقرأ قصة "حي بن يقظان" تشعر لوهلة أنك تقرأ كتابا لأحد الفلاسفة أو المتصوفة والعارفين، أو أنك داخل مختبر علمي أو حص العلوم، وكل ذلك في قالب من الاشتغال الحكائي.. معارف وسرود متعددة في نص سردي واحد؛ مما رشحه لأن يكون من أهم قصص العصور الوسطى إلى جانب "ألف ليلة وليلة".

وبرغم ذلك وبما حواه من مقومات سردية كزمان ومكان وشخوص وأحداث وصراع؛ ليس بإمكاننا محاكمة هذا النص القديم بمعايير وقواعد النظرية السردية الحالية. ومع ذلك لا يسعنا إنكار الابتكار في البناء الفني في القصة، والبراعة في المعالجة، ونموذج لتلك مشهد لقاء "حي بن يقظان" بشخصية "أبسال" الذي مارس فيه "ابن طفيل" تشويقا وتعاقبية منطقية، راصد فيه انفعالات وحركة ركض واختباء ثم لقاء وحوار (وولَّى أبسال هاربًا منه خيفةَ أن يشغله عن حاله، فاقتفى حي بن يقظان أثره لما كان في طباعه من البحث عن الحقائق. فلما رآه يشتد في الهرب، خنس عنه وتوارى له حتى ظنّ أبسال أنّه قد انصرف عنه وتباعد من تلك الجهة، فشرع أبسال في الصلاة والقراءة والدعاء والبكاء والتضرع والتواجد حتى شغله ذلك عن كل شيء. فجعل حي بن يقظان يتقرب منه قليلًا قليلًا وأبسال لا يشعر به حتى دنا منه، بحيث يسمع قراءته وتسبيحه، ويشاهد خضوعه وبكاءه).

كما استطاع "ابن طفيل" بمهارة رسم شخصيّات قصته بأبعادها الخارجية الشكلية والسيكولوجية والاجتماعية؛ فـ "حي بن يقظان" الشخصية الرئيسية في الحكاية؛ والمُعنون بها القصة أصدق برهان، فهي شخصية رئيسية أولا ونامية ثانيا مع توالي الأحداث وتصاعدها، دورها الأساسي في القصة يتمحور حول اكتساب المعرفة والكشف عن الحقيقة، وقد تطورت مع القصة منذ أن كانت لا تعرف الكلام حتى وصلت إلى درجة معرفية عالية قوامها التصوف والفلسفة والدين والشعر.

في أول القصة يقابلنا الطفل "حي بن يقظان" بأبعاده الخارجية والسيكولوجية، فقبل لقائه "أبسال" وتمام اكتساب معرفته العلمية كان متأثرا بما حولها من بيئة، ويعيش كأنه حيوان غاب: (شعر رأسه يغطي جسده، ريش النسر الذي يكسوه).. وسيكولوجيا هو شخصية تغلب عليها صفة الفضول والاكتشاف واستقاء المعرفة بطرق التجريب والملاحظة والقياس وغيرها، بجانب أنها شخصية متسائلة ويجوز القول أنها متشككة في كل ما هو غريب ومجهول- أليس الشك هو بداية الوصول لليقين؟- كتوجسه بدايةً من "أبسال" الذي يصوّر ابن طفيل شخصيته على أنّه متصوف (باحث عن الحقيقة وألفاظ الشريعة في صفة الله عزّ وجل وملائكته وصفات المعاد والثواب والعقاب) وأنّه (أشد غوصًا على الباطن وأكثر عثورًا على المعاني الروحانية وأطمع في التأويل) وكأنّ ابن طفيل أراد الإشارة هنا إلى مذهب أهل التأويل الباطني الذي يقول: "إنّ النص له معنيان: أحدهما ظاهر يفهمه عامة الناس بواسطة اللغة، وآخر باطن لا يدركه إلا الذين اختصهم الله بهذه المعرفة عن طريق التأويل؛ بعكس رفيقه "سلامان" الذي كان (أكثر احتفاظًا بالظاهر وأشد بُعدًا عن التأويل، وأوقف عن التصرف والتأمل). وكأن "سلامان" هنا يمثل المدرسة الظاهرية التي كانت شائعة في العالم الإسلامي آنذاك، لاسيما الأندلس التي عاش فيها ابن طفيل وابن حزم أحد منظري تلك المدرسة، والتي تؤمن بظاهر النص في الكلام المركب، ووجوب العمل بالقطعيات اليقينية وترك الظنون والآراء؛ ومع أن "ابن طفيل" لم يكن مجايلا لابن حزم الأندلسي الذي ولد قبله بنحو مائة عام أو يزيد قليلا، إلا أنّ هذا التوظيف يعكس سعة اطلاع بن طفيل.

تتموضع شخصية "أبسال" في النص كشخصيّة ثانوية وعاملا مساعدًا للشخصية الرئيسية "حي بن يقظان" والتي تدور حولها أحداث القص؛ فأبسال الذي قدّم للجزيرة حتى ينفرد بنفسه ويتعبد الله ويتفكر في ملكوته ساعد "حي" وعلمه الكلام والنطق، وعلى الرغم من أنّ أبسال هرب من الدنيا إلى الجزيرة البعيدة إلا أنّ "حي" أقنعه بالعودة والذهاب لدعوة الناس وتزكية نفوسهم بمعرفة الخالق عزو وجل.

وكذلك كانت الظبية عاملا مساعدًا عمل على حل عقدة الجوع والوحدة باحتضانها ورعايتها لحي بن يقظان بعد أن ألقى به اليم إلى سواحل الجزيرة والأجمة الكثيفة.

غير أنّ أكثر شخصيات القصة جاءت مسطحة في أغلبها وذات دور ثانويّ عرضي لم يتغيَّر مع مجرى القص، فهي ثابتة فكرة وسلوكا، ومنها مثلا شخصية الجغرافي "المسعودي" الذي ذكره ابن طفيل في مقدمة القصة في معرض حديثه عن الجزيرة التي يتولَّد بها الإنسان من غير أم ولا أب وبها شجر يثمر نساء، والتي سمّاها المسعودي بجزيرة الوقواق. أيًضا من الشخصيات المسطحة شخصية الشيخ أبو علي "ابن سينا" الذي ورد ذكره في أول القصة بأنّه برهن (أنّه لا سبب لتكوُّن الحرارة إلا الحركة، أو ملاقاة الأجسام الحارة، والإضاءة... وأن الأجسام التي تقبل الإضاءة أتمَّ القبول هي الأجسام الصقيلة غير الشفافة، ويليها في قبول ذلك الأجسام الكثيفة غير الصقيلة). ثم تعرض القصة شخصية مسطحة أخرى هي شخصية ملك الجزيرة؛ خال "حي بن يقظان" حيث لم يرد ذكره إلا في موضع محدد بعينه؛ وإن كان ابن طفيل قد أهمل التصريح باسمه أو أبعاده الشكلية الظاهرة إلا أنّ دلالة لفظ "الملك" تحيلنا إلى ما له من أبهة وصورة متخيلة عن ملبسه وتاجه وعرشه، كما أنّه عمد إلى تجسيد بعض من أبعاده السيكولوجية والانفعالية على شاكلة (شديد الأنَفة والغيرة) (إذ لم يجد لها كفؤًا) (فعضلها ومنعها الأزواج) بجانب شدته وحضوره الطاغي في أرجاء مملكته الذي نستدل عليه بدلالة الجملة (فلما خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سرها وضعته في تابوت).

ومن بين الشخصيات المسطحة في القصة أيضا شخصية الأم وصويحباتها اللائي تثق فيهن في كتمان الحمل، والولادة، وإلقاء الطفل -حي بن يقظان- في اليم، وكانت بلا دور متنامٍ في القص، فقط انحصر دورها في الإرضاع، ووضع الصبي في التابوت، والدعاء؛ غير أن الجملتان "أروته من الرضاع" و"قلبها يحترق صبابةً به وخوفًا عليه" تعكسان الأبعاد الداخلية للشخصية وحنان الأمومة وفؤادها المفطور كأم موسى.