دخول مملكة السّرد على جناح الشّعر:

...
...
...


سيف المرّي في "بيت العنكبوت" (1 – 2)
أ.د/ يوسف حطيني – أديب وأكاديمي فلسطيني – جامعة الإمارات
حين يتصدى شاعر ما لاجتراح معجزة الكتابة السردية يتوقّع الناقد مشكلة يفترضها ذلك التصدّي، وتتمثل في كيفية توزيع فيض المشاعر والصور على لغة النص، وفي التمكن من انفلات اللاوعي الشعري من أجل إعادة إنتاجه في الوعي الحكائي.
من هنا تبدأ مواجهتنا النصوص السردية التي قدّمها الأستاذ سيف المرّي في (بيت العنكبوت(1)) التي يصنّفها الكاتب ضمن جنس "القصة القصيرة جداً"، لأنه يجدها أصغر حجماً مما ألفه القارئ العربي في القصة القصيرة، فيقول: "آثرتُ أن أتّخذ في كتابة مادته أسلوباً أحسبه جديداً"، ثمّ يشير إلى أنّ أشهر قصة قصيرة جداً كانت لكاتب روسي يقول فيها: "طلعت الشمس وغابت".
وإذا كان طغيان اللاوعي الشعري يسبب إرباكاً في النصوص السردية الطويلة كالرواية؛ إذ يعوّق مسيرة التطور الحكائي، فإن أثره يصبح أكثر وضوحاً في النص السردي القصير الذي لا تتمكن الصياغات غير السردية في الاختفاء بين تفاصيله.
ويخيّل إليّ أن النصوص السردية التي قدّمها الأستاذ سيف المرّي في بيت العنكبوت لا تنتمي من حيث المصطلح النقدي إلى ما بات يعرف بالقصة القصيرة جداً انتماء قطعياً، بسبب افتقارها إلى التكثيف الذي اتفق جميع منظّري القصة القصيرة جداً عليه بوصفه ركناً من أركانها، سعياً لتحقيق تعريفها بوصفها "أصغر وحدة سردية تمكن فيها ملاحظة الدلالة"، هذا التعريف الذي يُخرج أيضاً النص الذي أشار إليه الأستاذ المري في مقدمته "طلعت الشمس وغابت" من ذلك الجنس الأدبي، لافتقاره إلى الدلالة.
على أنّ ما يقدّمه المري في "بيت العنكبوت" يمتاز بمجموعة من الخصائص، توفرها له شعريته الأصيلة التي لا يقدّم من خلالها حكاية مباشرة، بل ظلال حكاية غامضة تلتحف بالرمز والصورة، والكوابيس والأحلام، وتختفي خلف غشاوة اللغة البديعة، وتفيد من لغة الآخر، وتخلخل بنية الزمن الفيزيائي لصالح زمن تحتفي به النفس البشرية.
الحكاية قيمة مضافة:
لعلّ قصة "ذات صيف" تكون نموذجاً جيداً للنصوص التي تحكمها حكاية محبوكة بمهارة، حيث تقود بداياتها إلى نهاياتها، على غير نسق تتابعي. وعلى الرغم من شعرية الوصف التي تحكم لغة النص فإن ما يعزّز الحكاية، ويجعلها ذات أثر واضح في المتلقي هو المفارقة التي تبرزها النهاية؛ إذ تكشف أنّ البطل افترق عنه شقيقه ذات صيف، واصطادته بندقية غادرة، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ تدوير الحكاية، أي الاعتماد على بنية دائرية تعيد إنتاج البداية لغوياً يعطي الحكاية ألقاً فنياً لافتاً. فالقصة تبدأ على النحو التالي:
"الريب والغيب وصيّبٌ من القطر في معتم من الغيم، وليليٌّ يذرع الزوايا الأربع، وعيون البنادق تنظر إلى حيث تتكوّر الصلال".
أما نهايتها فتبني على لغة البداية، لتضيء من خلال تكرار صدى التركيب ما خفي من تفاصيل الحكاية: "وكلّما عاد الصيف نظر وانتظر، وأمعن في النظر إلى ذات المكان الذي وقف فيه شقيقه ورفيقه وصديقه، حين افترقا ذات صيف، وقد كانت عيون البنادق تنظر إلى حيث تتكوّر الصّلال".
على أن الحكايات في قصص "بيت العنكبوت" قلّ أن تتصف بالوضوح، فإذا كانت الحكاية تشكّل عماد الكتابة السردية، فإنها لا تشكّل عند سيف المري سوى قيمة مضافة للنص، فهي مجرّد غلالة شفيفة في معظم الأحيان، ذلك أنّ الكاتب مولع بالوصف البديع لشخصيات خياله الفني. في قصة "شمس وقمر" يصف المرّي الشخصية على النحو التالي: "بشرية المظهر، سماويّة الجوهر، ولو كانت من الفانين ما عابها ذلك، ولكنها خالدة؛ جمعت شمساً مشرقة أبداً تكون في كون من الياقوت واللؤلؤ والعسجد، طلعتها لا تغيب ونورها لا ينقطع، وقمراً يخاف الليل من ضيائه، وتفرَقُ الظلماء من طلعته، بهية وللبهاء معها ثوب لا يخلق أبداً".
ولنا هنا أن نعجب بهذه اللغة الجميلة قبل أن نطرح أسئلة مشروعة: هل هذا الوصف يحرك السرد؟ أين كانت الحكاية قبله؟ وأين صارت بعده؟ وحين نجيب نكتشف أنه وصف لا سردي يعوّق الحكاية، حتى في القصة القصيرة، فكيف يكون أثره حين يتعلّق الأمر بالقصة القصيرة جداً؟
وتعدّ المقولات التي تحملها القصص بين طياتها صيغاً غير سردية، وإن كانت تعبّر عن عصارة تجربة يقدّمها الكاتب للقارئ في قالب لغوي رصين، يغذّي العقل، ويوقف سحر أدبية اللغة على حدود الفكرة. ومن المقولات الكثيرة التي حفلت بها نصوصه نعرض ما يلي:
 "ومن رهن حياته لحلّ الأحاجي عليه ألا يكترث بأحجية الموت".
"كل شيء مباح في الحب والحرب".
"ومن أدمن العواصف فإن سكونه لا يكون إلا بهبوبها".
"ومن يتدخّل في حركة الكواكب تفاجئْه بما لا مرب منه".
"وحريٌّ بمن تآلفَ مع سمر الليل أن يقضي عمره مفتوناً".
"ومن أطاق أن يرى ما لايُرى، ويسمع ما لا يُسمع، فإنّ بينه وبين الجنون شعرة".
ويعرض علينا الكاتب أشكالاً مختلفة من النصوص السردية، فقد تنتهي الحكاية من البداية وتبدأ تجلياتها، على نحو ما نجد في قصة " أحلام ميداس"، حيث تحكي الأسطر الأولى حكاية ميداس الذي يحوّل ما يلمسه ذهباً، وهي حكاية مأخوذة من المثيولوجيا الإغريقية، ثم يتابع الكاتب تتمة السرد ساعياً إلى كشف تجليات ذلك؛ لتبهت الحكاية وتظهر موعظتها.
وقد تتحول القصة عنده إلى لوحة سردية لا حكائية، أي أن السرد فيها لا يقود إلى عقدة وحلّ، ويصبح البطل نموذجاً على نحو ما نجد في قصة "واحد موسوس"، وفي قصة "شخص ومجموعة كراسي"، وهي حكاية شخص، أو نموذج من الأشخاص، لا يثق بأحد، ويفضّل العزلة، ويقدّم فيها الكاتب السيناريوهات المحتملة لنهاية هذا الشخص، وتكون النهاية على النحو التالي: "إذا ما عجز أو مات الطبيب الخاص، ثم وضع أو خصص أموالاً في حساب لا يستطيع أن يعبث به أحد لجنازته وإجراءات دفنه، ليظلّ بعد ذلك وحيداً في قبره إلى يوم القيامة".
وربما يتم الإيهام بالقصة من خلال الخبر والطرفة والنادرة، مما كان معروفاً سابقاً في النثر الحكائي التراثي، على نحو ما نجد في النص الذي حمل عنوان "مزحة ثقيلة"، وفيه يسرد حكاية طريفة عن الشاعر أبي دلامة الذي يرسله أبو جعفر المنصور لمحاربة الخوارج، على الرغم من أنّه لم يكن فارساً، لينتهي إلى موعظة يرى فيها أن مزاح ذوي النفوذ ثقيل جداً، وقد يصل إلى اللعب بحياة الناس وموتهم.
وقد تتخذ القصة من بدايتها إلى نهايتها معنى وعظياً، على نحو ما نجد في قصص الفتيان، ونمثّل هنا بقصة "اللعب بالنار"، حيث يقود الكذبُ الرجلَ إلى التهلكة، وتأتي النهاية لتقول: "ومن الكذب ما قتل".
وتمتدّ الوعظية والشعرية معاً لتشكّلا خيارين فنيين من خيارات نهايات الحكاية لدى الكاتب، على نحو ما نجد في قصة "نواميس" التي تشير إلى أنّ "للخير أهلَهُ الذين يعرفونه، ويُعرفون به"، وقصة "فراشات النور" التي تنتهي نهاية شعرية لا سردية. على أنّ أكثر النهايات إدهاشاً للقارئ هي النهايات التي تتخذ النهايات المفتوحة أسلوباً لها، فكأنّها توقف الحكاية على حدّ السكّين، ونمثّل ها هنا بقصة "الثواني السبع الطوال" التي تدور حكايتها حول رجل ينتظر رسالة على شبّاك حاسوبه، وتصوّر الثواني السبع التي تمتدّ طويلة جداً، ويرصد المؤلف رحلة انتظار البطل ثانية ثانية، وحين تطلّ الثانية السابعة تضيء شاشة الحاسوب، ولكن الكاتب يتركنا أسيري الحيرة: "ويمدّ يده المرتجفة ليفتح ما حملته له الثانية الأخيرة بعد سبع ثوان من الانتظار، تعادل سبعة أعوام عجاف. فما تراه سيجد؟ وهل سيعيد اكتشاف العالم، أم أنّ نهاية أعوامه البيض صارت محكومة بثانية واحدة، يتغيّر بعدها كلّ شيء"(2).
خلخلة الزمن الفيزيائي:
يمكن أن نبدأ من حيث انتهينا في الفقرة السابقة؛ إذ يمثّل تمديد الزمن السردي شكلاً من أشكال خلخلة الزمن الفيزيائي، فثمة في قصة "الثواني السبع الطوال" زمن يتمدّد ثانية ثانية،  وثمة مثل ذلك في قصة "الدرجة المحرّمة": "وسوف يظلّ عشرة أعوام يعاني في جسده الآلام المبرّحة لحركة لن تأخذ من عمر الزمن الحقيقي إلا عشر ثوانٍ قصار"، ومثل السياق التالي من قصة "بيت العنكبوت: "ولجَ إلى بيت العنكبوت حيث تمرّ الثانية كمئة عام".
إننا نرى فيما اخترناه من القصص السابقة في السطور السابقة صورة المبدع الباسط للزمن، فيما نرى صورة القابض في قصص أخرى، ولله المثل الأعلى في بسط الزمن وقبضه ، ويستخدم القاص التلخيص الزمني في قصة "أمنية كلب": "وتدور عجلة الحياة دورة مقدارها عشرون سنة مما تعدّون، يفترقان خلالها ثم يلتقيان"، بينما يلجأ إلى تقنية القفز في قصة "الدرجة المحرّمة": "أمّا الدرجة الأولى فهي محرّمة عليك، قالها له، وهما يعبران نفق الظلمة صغيرين (...) ومرّ عقدان على تلك الليلة، وحان له الوصول إلى الدرجة المحرّمة"، ومثل ذلك قوله في "ليلة عيد": "دار الفلك دورة كاملة، وعاد العيد لابساً حُلّة جديدة".
ومن ألظف التعبيرات عن خلخلة الزمن الفيزيائي قوله في قصة "شيء غريب: "ومع أنّ السنين قد أخذت منه الكثير، إلا أنّها لم تقدر على أن تأخذ منها شيئاً"، فكأن الزمن يجري على الشاب ولا يجري على الفتاة، على نحو ما حدث مع جميل بن معمّر العذري صاحب بثينة الذي قال:
جميل: قريبان مرتعنا واحد ..... فكيف كبرتُ ولم تكبري؟
وثمة في عرض الزمن شوق مستتر، وأحياناً ظاهر للزمن الماضي، ويمكن هنا أن نمثل بقصة "أحلام مهربة"، حيث يزهد الناس بكل أسباب الراحة والتقدم التكنولوجي مقابل حلم جميل، ويمكن أن نمثّل أيضاً بقصة "عيدية"، فهي ليست قصة تتمحور حول عملة معدنية يدحرجها طفل، وتعود إلى زمن ماض، بل هي نظرة تجاه الزمن، وقبض على محرق السرد في برهة "البحث عن الزمن المفقود".
(يتبع).
......................
الهوامش:
(1)    سيف المرّي: بيت العنكبوت، دار الصدى، دبيّ، 2010.
(2)    نشير هنا إلى أشهر القصص القصيرة ذات النهاية المفتوحة، وهي قصة: عروسٌ أَم نمر؟ للكاتب الأمريكي: فرانك ستوكتن (1834ـ1902).

 

تعليق عبر الفيس بوك