الرؤية المستقبلية (3): المرونة والتنفيذ

 

د. صالح الفهدي

في عالمٍ سريع التغيُّرات، عصيٍّ على التنبوءات، مضطربِ الأحداث، متلاطمِ الأمواج، ليسَ من السهولةِ بمكانٍ ترسُّمَ رؤيةٍ مستقبلية بعيدةِ المدى، على أنَّهُ ليس بالمستحيلِ في حالِ تمتُّع الرؤية بالمرونة.

كثيرةٌ هي الشركاتُ العالمية التي لم تعد تلتزمُ بالموازنات الماليةِ الصارمةِ التي تأبى الخروج على بنودها، لأنَّ الالتزام الصارم يفقدها الفرص المواتية، والتجدُّد هو السِّمة الأبرز التي أبقت بعض الشركات العالمية حيَّةً، تتصدَّر المشهد الاقتصادي في الوقت الراهن، في الوقت الذي تلاشت فيه شركاتٌ لم تستطع أن تُجدِّد من نفسها، تواءماً مع المتغيرات التي حدثت في العالم.

إنَّ من الأهمية بمكان تمتُّع أيَّة رؤية مستقبلية خاصةً طويلة المدى بالمرونة هو أمرٌ يعتبرُ فيه الكلامُ محسوماً، ومسلَّماً، لكي تتمكَّن الرؤية من مواجهة المتغيرات المحلية والعالمية عند التنفيذ، الأمر الذي يعني قابلية التعديل، والتغيير بحسبِ ما تكون عليه تلك المُتغيرات، وما يُصاحبها من مُعطيات.

وحيثُ إنَّ الرؤية المستقبلية ليست مجرَّد تطلعات نظرية بل هي في حقيقتها عمل واقعي ملموس ينشدُ غاياتٍ معينة، أو أهدافا إستراتيجية وضعتها الرؤية نصب عينيها، فإنَّ التنفيذ هو العامل الحاسم الذي يحوِّل الرؤيةَ من حِبرِ الأوراق إلى أرضيَّةِ الميادين، فتصبحَ ماثلةً للعيانِ، وتعطي مؤشراً واضحاً على ما تمَّ التطلع إليه داخل أروقة القاعات، وعبر مخاضات النقاشات الطويلة.

التنفيذُ هو ما يحكم عليه العامَّة الذين تعنيهم النتائج التي يتطلعون إلى ملامستها في معايشهم، وأحوالهم، فبقدرِ ما يكون التنفيذُ سليماً -على افتراضِ وجود رؤية مستقبلية تمتلكُ أهدافاً واقعية، وقابلة للتطبيق- فإنَّ ذلك يمنحُ الرؤية المستقبلية مؤشراً على فاعليتها، فالفكرة لا يُمكنُ إثبات نجاحها حتى تثبتَ ذلك في أرضية الواقع.

وحين كنتُ أتحدَّثُ مع أحد الذين وضعوا رؤية مستقبلية طويلة المدى عن الإشكاليات التي واجهت الرؤية، لم يزد في ردَّهِ عن كلمة واحدة هي "التنفيذ"..! هذا الأمر يقودنا إلى الحديث عن الآليات التي تضمنُ التنفيذ السليم، بل والدقيق للرؤية المستقبلية في حال التوافق المجتمعي على الأُطر العامة للرؤية.

وما لم تتوفَّر للرؤية المستقبلية من جهةٍ تتمتَّع بامتلاكها لصلاحيات نافذة، وقدرة على المُتابعة، واتخاذ كافة التدابير الخاصَّة بالتنفيذ وفق مؤشرات الأداء، فإنَّه لا يُمكن المراهنة على تحقيق نجاحاتٍ على أرضية الواقع.

وتوافقاً مع ذلك المسار المؤسسي، يأتي المسار التشريعي الذي لابد أن يتَّسم بالسرعة والمرونة في إنشاء القوانين المُيسِّرة لتنفيذ الرؤية، وتعديل أو التخلص من القوانين المُعيقة لها، وهو أمرٌ مهمُّ للغاية، حيث لفت – على سبيل المثال- أحد رؤساء الشركات الأجنبية حينما سُئل عن أسباب التأخير بأنَّ أحد الأسباب هو القوانين والتشريعات في استخراج التراخيص.

نختمُ بالقول على أنَّه لا سقفَ للتطلعات المستقبلية، بيدَ أنَّ تلك التطلعات لابد وأن يصاحبها تنفيذٌ، عمليٌّ شمولي، مدفوع بإرادة سياسية.