الثقافة والفنون.. المشترك الإنساني

حاتم الطائي

 

"إنّ دار الأوبرا السلطانية مسقط سوف تؤدي دورا هامًا وبارزًا في نشر التراث العالمي، وترسيخ مُثل السلم والتعايش والتفاهم بين جميع الأمم والشعوب، عبر فعاليات الفنون التي تعبر عن تراث ثقافي وإنساني مشترك بالغ الدلالة وعميق الأثر"- حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، في نطق سامٍ بمناسبة افتتاح دار الأوبرا السلطانية مسقط في أكتوبر 2011.

تحتل الثقافة والفنون موقعا أساسيا في مسيرة النهضة المباركة؛ إذ تُحظى باهتمامٍ سامٍ من لدن حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- أيّده الله- وقد تجلّى ذلك في العديد من الصروح الثقافية والتراثية التي تزدان بها بلادنا، فمن القلاع والحصون العريقة إلى المكتبات ومؤسسات ومراكز صناعة الفكر وصولا إلى دار الأوبرا السلطانية مسقط وأيضا قبل أيام افتتاح دار الفنون الموسيقية الأولى من نوعها في السلطنة، تبرُز الرعاية السلطانية لمختلف أوجه التواصل الحضاري المتمثل في الفنون والثقافة والتراث.

والحديث عن الثقافة والفنون في فكر جلالة السلطان متشعب ويشمل أغلب مناحي الحياة؛ إذ لم تقم نهضتنا المباركة إلا على أسس من الثقافة المستنيرة لجلالته- حفظه الله- والتي رسمت منهج التطور والتنمية الشاملة في السلطنة، فانفتحت عمان على العالم قبل نحو خمسة عقود، لتعلن عن نفسها لؤلؤة كامنة، تشع نورًا وبهاء يضيء الأنحاء من حولها، كمنارة سامقة تهدي المبحرين في دروب الحياة وترشدهم إلى موانئ الاستقرار ومرافئ السلام.. إلى عمان، أرض الحضارات المتعاقبة، والثقافات التي انصهرت في بوتقتها فأنتجت مزيجا فريدًا من الثقافة، مستلهمة المبادئ العمانية الأصيلة.

ولقد أعلى جلالة السلطان المعظم من شأن الفنون والثقافة، وحرص منذ بزوغ فجر النهضة المباركة على إنشاء المؤسسات والصروح الثقافية، ففي عام 1976 تأسست أول وزارة معنية بالتراث والثقافة، وكانت تحمل آنذاك اسم "وزارة التراث القومي والثقافة"، والملاحظ أنّ إنشاء هذه الوزارة في بواكير عصر النهضة يؤكد دون شك الرغبة الواضحة في تأسيس مسار تنموي قائم على الثقافة، يضمن الحفاظ على الموروث الثقافي والحضاري العماني، ويمهد الطريق نحو صحوة ثقافية بالتوازي مع عملية التنمية الشاملة وقتئذ.

وذلك الاهتمام السامي بالثقافة والفنون وضع- برأينا- جملة من الأهداف في المقدمة منها حماية مفردات التراث العماني، وقد قطعت السلطنة شوطا كبيرا في هذا الصدد، فنجحت في تسجيل عدد من المواقع والفنون في قوائم التراث المادي وغير المادي التابعة لمنظمة اليونسكو. كما إنّ من بين الأهداف إعادة الروح للفنون العمانية الأصيلة والتي تعكس جوانب حضارية تميز بها الإنسان العماني قديما، لاسيما الفنون الشعبية عبر توثيقها وحفظها للأجيال القادمة.

الفنون هي غذاء الروح والعقل، بها ترقى الأمم وتتطور على قواعد الحق والخير والجمال، والإنتاج الثقافي للأمم- مع تنوعه وحيويته- يعكس الجوانب المضيئة والمشرقة على مر التاريخ، لما للفن من رسالة أصيلة ونبيلة تسمو بالإنسان وتعلو بمعارفه كي يبدع ويُجدد ويواصل مسيرة بناء الحضارة.

والعمانيون من أوائل الشعوب التي أبدعت فنونا وأنتجت ثقافات نالت إعجاب العالم، ففن العازي والرزحة والهبوت والبرعة والعيالة والمدار والليوا وغيرها الكثير، فنون عمانية أصيلة أبدعها آباؤنا وأجدادنا على مر العصور، ونقلوها لنا لتبرهن على تنوع وثراء حضارتنا الضاربة في عمق التاريخ. ولذا فإنّ الاهتمام بالتراث والفنون أمانة على الجميع تحملها والقيام بها، وما إنشاء الدور الثقافية والصروح الفنية إلا ترجمة لهذا الاهتمام.

ودار الفنون الموسيقية التي افتتحت الأسبوع الماضي، هي الصرح الأحدث في مسيرة الاهتمام بالفنون والتراث، وتأكيد جديد على سمو رؤية جلالة السلطان للفنون والثقافة ودورها في تنشئة الأجيال على قواعد الرقي والجمال والتواصل الحضاري. فالدار الجديدة التي تمثل إضافة جوهرية لدار الأوبرا السلطانية، ستستفيد من الدور الحضاري الذي أسست له الأوبرا السلطانية قبل ثمانية أعوام بفضل ما تم تقديمه من عروض أوبرالية وفنية وموسيقية حظيت باهتمام العالم وأثرت المعارف الفنية والموسيقية للجمهور في السلطنة، كما استقطبت سياحا من خارج البلاد ليشاهدوا عظمة هذا الصرح وروعته وبراعة الأداء المقدم على خشبة مسرح الأوبرا. ومن الأهمية هنا الإشارة الى الدور التثقيفي لدار الفنون الموسيقية، حيث ستكون الدار رافدًا ثقافيا آخر لما ستقام عليه من فعاليات فنية وثقافية فضلا عن إقامة المعارض المتخصصة داخل أروقتها الفخمة المعبقة بروح التراث العماني المذهل. وقد كانت خير بداية لهذه الدار افتتاح المعرض الأول الزائر "فكتوريا وألبرت.. 400 عام من الإثراء الأوبرالي"، والذي يقسم الحقب والمراحل التاريخية الشاهدة على تطور مسيرة فن الأوبرا على مر العصور، بآليات تقنية حديثة وطريقة عرض معاصرة تبهر الزائر من الوهلة الأولى. أهمية احتضان دار الفنون الموسيقية لهذا المعرض تكمن في أن عُمان هي الوجهة الأولى له خارج العاصمة البريطانية لندن، مقر المعرض، فضلا عن أنّه يمثل ثمرة تعاون مع متحف "فكتوريا وألبرت". ولا شك أنّ هذا المعرض يترجم أحد أبرز أهداف الدار، المتمثل في تعزيز التواصل الحضاري بين الأمم، فالمحطات المتضمنة بداخله تجوب بالزائر بين مختلف الحضارات والأمم من البندقية في إيطاليا مرورا بفيينا وغيرها من المدن وصولا إلى مسقط حيث دار الأوبرا السلطانية.

إنّ الحديث عن الأدوار الحضارية للفنون والثقافة في تطور الأمم يتكامل مع ما تحتفظ به الشعوب من عادات وتقاليد وقيم أصيلة، فلا تعارض بين الفن والقيم، بل ثمة تكامل في الأدوار وتوافق على الأهداف المبتغاة؛ وفي القمة منها إعلاء قيم التسامح والمحبة والوئام.. الفن رسالة نبيلة تسمو بالنفس البشرية فوق الضعف الإنساني، فبالفن يُبدع الإنسان وتزدهر الحضارات، فكم من حضارة عبرت المحيطات وانتشرت في ربوع المعمورة بفضل ما تتمتع به من فنون وثقافات.. مؤلفات العلامة العماني الخليل بن أحمد الفراهيدي في اللغة والأدب انتقلت إلى مختلف بقاع الأرض واستمرت حتى يومنا هذا، تتناقلها الأجيال، ولا يزال يثير الدهشة بفضل ما أبدعه من معارف أسست لعلوم أخرى غيّرت ملامح الثقافة..

أعمال علمائنا ومثقفينا استمرت ولم تتوقف، فقصائد الشاعر العماني أبومسلم ناصر بن سالم البهلاني تُدرس في الجامعات، وأشعاره تثري المكتبة العربية. وهناك الكثير، منهم العالم الكيميائي والطبيب ابن الذهبي عبدالله بن محمد الأزدي، والإمام نور الدين السالمي العالم الموسوعي، والقائمة لا تنتهي...

خلاصة القول؛ إنّ الفن أحد أوتاد الدبلوماسية الناعمة؛ إذ يرسَخ في وجدان الشعوب بفضل قدرته المذهلة على بناء الوعي الجمعي، وتشكيل المخيلة الإنسانية، ونحن في عمان نؤمن بالدبلوماسية الناعمة ودورها في إحداث اختراقات بعيدا عن تجاذبات السياسة ومتاهاتها، فالفنون المغناة أعلى صوتا من أزيز الطائرات الحربية، وكلماتها أوقع أثرًا في القلب والعقل من نشرات الأخبار المدججة بأنباء القتل والتفجير. فالثقافة والفنون مشترك إنساني نبيل، يتعين علينا جميعا أن نتمسّك به وأن نحافظ عليه كي نضمن حياة مستقرة، قوامها التسامح وديدنها المحبة والإخاء والتعاون.