مانِيلَّا


نهى الطرانيسي | مصر

أخنق القلم بين أصابعي، يهوى طَرْقا منتظمًا على الطاولة حينا وأبرحه حينا آخر، أفقيًا يلتقط أنفاسه... ظللت مستيقظة طيلة الليل، لم أنهِ بعد المدونة التي سأعرضها على أستاذي، سيترتب على هذا اللقاء بداية العمل الجاد على أطروحتي العلمية في مادة الفلسفة.
الهاتف لا ينفك يصدر رنينا مختلفا بين اتصالات ورسائل مكررة، هذا عملي الذي يقتنص مني ساعات الانفراد بمكتبي المتواضع المواجه لنافذة يظللها من الخارج ستار أبيض من الثلج.
طرقات أقدام مانيلا (أمي)، تحسب من كثرتها أنها تتجول في أرجاء المنزل ولكن جميعها في المطبخ، تقضي يومها به، لا تتركه إلا للنوم أو أوقات الطعام والمسامرة.
مانيلا: صباح الخير عزيزتي، حضرت لك وجبة دافئة.
أنا: عذرًا أمي، سأتناول قهوة سريعا فجدولي مزدحم اليوم.
مانيلا: قهوة!! لقد خبزت معجنات بالزعتر العربي وأخرى بحبوب الكمون و....
أنا: كفى يا أمي، لا أعلم لمَ تشغلين نفسك دائما بتلك الأمور، إفطارنا فقط شطائر أو حبوب، وعاداتنا في الطهي لا تستلزم هذا الوقت والجهد، حتى ملابسك وشعرك الذي دائما على هيئة جديلتين.
حزنت مانيلا ولكنها ليست المرة الأولى، اقتربت منها وطلبت صفحها، وعذري كان إجهادي طوال الليل... ولم يكن ذلك صحيحا.
سبقت ظلي للخروج من المنزل لأطلق العنان لسر دفين يرقص في عقلي خالقا مئات الأفكار التي ستعود معه إلى نفس القفص حينما أعود إلى عالمي.
لم تظهر الشمس ولم أدرِ ما الوقت إلا بالنظر إلى الساعة (بعد الظهيرة) الآن...أجلس بالمقهى أتناول قهوة مع بعض معجنات الزبدة، تذكرت مانيلا... كانت فتاة صغيرة وجدت نفسها في مأوى الأيتام، لم تدرِ ما اسمها الحقيقي وكيف هما أبواها ومن هما أو أسماؤهما، عاشت مانيلا ولكنها لم تتكيف مع أقرانها، كانت الغريبة بينهم، كانت تميل إلى اللون الخمري، شعرها ليس بالأشقر الناصع كالأخريات، كبرت وكبر داخلها شخص خلقته بنفسها، ظلت تحدثني من لحظة بكائي الأولى لتنشق الهواء حتى الآن، إنها ليست غربية خالصة، لها أصول عربية... بداية ناقشتها مرارا لكنها تنهي الحديث بحدة، إنها أكثر شخص يدري ويشعر بهويته وحتى إن لم تعِ ذلك وهي صغيرة، بعد ذلك استسلمت لها ولوجباتها التي لم تتقنها بعد على الرغم من عشرات السنين التي استهلكتها للتدريب عليها.
بدأ القلم يترك أثرًا عمليا في أوراقي، استهللت العمل بدراستي، لاحظت مرض مانيلا الذي بدا غريبا هذه المرة، دخلت الغرفة أداعبها بالمزاح (أين الشاي المنكَّه بالأعشاب والطعام النفاذ؟). ابتسمَت بشقاء.
أنا: إن لم تنقذيني ببعض طعامك من الجوع، لن أخبرك بالمفاجأة.
مانيلا: ابنتي...لا أقدر على النهوض سامحيني.
أنا: ما رأيك بالسفر لبضعة أيام... اختارى مكانا.
أطرقت مانيلا لبعض الوقت، التفتت في هدوء (خذيني لأقرب نقطة لقاء مع الشرق)
لم أدرِ لمَ خالطَت قلبي غصة مؤلمة، ولم أتنبأ لها بالخير.
سافرنا وأخذتها على كرسيها المتحرك أطوف بها البلد لنجلس بمطعم يطل على المرفأ.
مانيلا: اتركي هذا الكتاب، استنشقي هذا الهواء.
أنا (مبتسمة) : هذا الكتاب لأطروحتي وأود إنهاء قراءته.
مانيلا: أتعلمين أن هذا الهواء مختلط بيننا وبينهم، لمس وجناتهم ورطب جباههم وها هو يلتقي بنا، فهو حلقة وصل أليس كذلك ؟
أنا: بلى يا أمي، أريدك أن تستعيدي صحتك.
مانيلا: عديني يا عزيزتي، عندما أموت، اهتمي بي كما أريد.
لم أفهم ما تعنيه، سألتها، لكنها غرقت في صمتها منصتة لخيالها والهواء يدغدغ غرتها البيضاء وأناملها تداعب جديلتها.
أثناء العودة، استكملت قراءتي للكتاب... ظلت عيني هادئة، تنتقل من كلمة لأخرى، يخالجها شعور مترقب خفي غير مبرر لشيء مفاجئ، (نظرية الذاكرة ) لجون لوك طرقت عقلي بمطرقة من حديد، التي تنص على أن المرء يتذكر وعيه وكيف كانت حياته الماضية حينما ينام وأن هوية المرء تتشكل بمرور الوقت وتظل في حالة مستمرة من التيقظ والتـأثير بسبب ارتباطها بالذكريات. أغلقت الكتاب مبهمة شاخصة ببصري إلى وجه مانيلا النائم، أملت رأسي على كتفها (ترى مانيلا، ما هي ذكرياتك التي يعيها عقلك الباطن ولا تذكرينها، أحقا أنت أدرى بهويتك وأنا المخطئة طوال تلك الأعوام؟).
اقترب الصيف، ذهبت الرياح الرمادية بدون رجعة ومعها مانيلا!!
باقة من البنفسج أضعها على قبرك، نامي هنيئا مانيلا... أرجو أن تسامحيني، ها أنا اهتممت بك كما تريدين، فأنت ترقدين بمقابر عربية هنا كي أستطيع زيارتك.
بعد يوم منهك...عدت وافتقدت رائحة طعامك ... أخرجت الزعتر وخلطته بزيت الزيتون وتهيأت لوجبة العشاء.                

 

تعليق عبر الفيس بوك