أمي و"الأبلة ماجدة"..نحن الذين ربتنا امرأة

 

عبدالوهاب شعبان

مرة أخرى عن أمي، ومعلمتي.. رحلتهما السامية، و نتاجهما الأسمى..
(1)
يزيد الأسى مع مراجعة نظرات الناس لمن يحمل صفة "ابن أمه"، ممقوتة هي، وتلازمها نعوت اللامسئولية، التواكل، وفشل الحرث، والنسل، وتأباها مجتمعات تتحمل المرأة فيها بشكل عام أعباء الحياة المضافة، تنكّرها، وتآمرها على حين تبدل مفاجيء للأيام.  
أتذكر مثلًا ما يدور في أروقة القرى المعذبة بعاداتها، وتقاليدها- كأصنام تعبد جهارًا نهارًا من دون الله-، ويلوذ منطقها بالصراخ حاسر الرأس، مهلهل الملابس في طرقاتها، ما يتلونه حين يأذن الله أن يشب أبناء الأرامل على أطرافهم، وينتصبون في مواجهة الحياة جنبًا إلى جنب ( هذا تربية امرأة) منزوع عنهم غطاء الهيبة، ولباس الوقار،  إلا من أوتي ثروة استثنائية على سبيل المصادفة.
(2)
ما يقطعه العالم، تصله يد الأم..
 في واحدة من حكايات الطفولة بمدرسة أطفيح الابتدائية "بنين" كانت "الأبلة ماجدة" متنًا على اتساع الهوامش، تترك فسحةً لتلاميذها في الحكي، والملاطفة، وتغرس الثقة غرسًا في أنفسٍ وليدة، تفتح أعيننا رويدًا رويدًا على عالم جديد، وتأخذنا بالحواديت إلى عوالم أخرى لترينا فضل الأم، ومكانتها، وتزيد علينا في وجوب الطاعة، والالتزام بأوامرها.
حملنا في طفولتنا علبة صغيرة بها "زجاجة عطر، ومنديل أبيض) في مناسبة عيد الأم، وحُملنا إلى أحضان أمهاتنا نستشعر دفئًا استثنائيًا جزاء المفاجأة، وتوطدت لدينا أن الأمومة التي تبدأ من البيت، تتمدد معانيها، وتتجدد في المدرسة.
لما كبرنا صارت "الأبلة ماجدة" أمًا لجيل بأكمله، وأمّي في خاطري هي المعنى الراسخ من حواديتها..
(3)
لم أخجل أبدًا حين يناديني تلاميذ أمي في مدرستها بـ"ابن الأبلة فوزية"..استشعر فخرًا استثنائيًا بهذا النسب، وأود لو يعلم العالم أن هذه السيدة هي ملاذي، وعياذي حين يأبى الأفق انفراجه.
لخصت هذه الأم نظريات الفلاسفة، والمفكرين، حين صدت عن صغارها رياح الجاهلية العاتية، تسامت عن سفاسف الأمور، وصغائرها، بما لم يستطعه آخرون، ومن إحباطات المجتمع المتتابعة نسجت خيوط الأمل، وكانت أول من آمن بي من النساء حين قامت القيامة بمجرد إبداء رغبتي في العمل بالصحافة.
ولم تشرق شمس إطلاقًا على إخوتي في بهاء أجمل من إشراقتها في ليالي الضباب الحياتي المتكرر، ولا يدنينا من عطايا السماء إلا تقلّب وجهها، والدعاء..
(4)
ذات مساء التقينا (أصدقاء المرحلة الابتدائية)، زار الشجن جلستنا، وهاجت الذكريات، مرت الرحلة أمامنا كأنها الأمس القريب، وجميعنا تغزّل في ثنائه على "الأبلة ماجدة"، واتفقنا على زيارتها بمنزلها، هي النبع، وكلنا شرب منه قدر استطاعته.
تأخري في عملي يومها حال بيني وبين زيارتها، قيل لي إن فرحة استثنائية غمرت وجهها، ولم تبرح عيناها نظرة معتادة منذ طفولتنا، جامعةً بين الحنان، والأمان، وفوقهما الاطمئنان المستمر علينا من أقاربنا كلما لاحت لها فرصة لقائهم، وزادت: إنها لا تزال فخورة بنا، كأفضل دفعة مرت عليها في مسيرتها التعليمية.
حظي أنّها تبعد عن منزلي أمتارًا قليلة، غير أنني عند كل لقاء على سبيل المصادفة استحيل إلى طفل خجول، ينكس رأسه، وينطق على استحياء "إزيك يا أبلة"، وتزيد بهجتي حين تنطق اسمي بنبرتها العذبة التي لم يغيرها الزمن.
(5)
كذلك يكون للمرء أمًا لم تلدها جدته، وكلهن في مقام الفخر سواء.
لم أجد منتجًا بشريًا يستحق الإشادة إلا كان نتاج سيدة وقورة، تدرك مهمتها الأصلية في تربية الأبناء، والدلائل كثيرات في أوساطنا القروية المحدودة، وما دونهن من نسخ مستحدثة يركلن كل قيمة بأقدامهن لهن نتاجهن، وما جرى في بلادنا من تسليع القيم، وتسعيرها، يفهم بمجرد النظر إلى ما يجري في شوارعنا من سفاهات، وبلاهات، وانحدارات غير مسبوقة في الذوق العام.
وهذا الحنين الأخاذ لـ"وصايا"-الأبلة ماجدة-، معطوفًا على تجربة أمي، وشبيهاتها، يدفعني دفعًا إلى تقيؤ المسوخ اللاتي في البيوت، يتنكرن للمهمة الأسمى، ويُسقين من معين بائس تحت مسميات نسوية مبتذلة، لا جذور لها، ولا يرجى منها نبتًا طيبًا.
 (6)
عن آخرها تمتليء الذاكرة بمعلمات، وتجارب، وحظ أمي أنها جمعت بين رسالتها التعليمية، وتجربتها في تربية أبنائها، وحظي أنني سقيت من معين "مدرّستي" إذ لا ينضب شرابه أبدًا، ويخرج نبته بإذن ربّه، وأود لو أنّ جيلًا آخر خاصمته حظوظه في الاقتداء بـ"شخوص مؤثرة"، واستمرأ "مشاعرًا بلاستيكية في فضاء خادع"، عاود النظر في مفاهيم أثر الأم، والمعلّمة على التنشئة، كما نُحتت في صدورنا –الأبلة ماجدة، وتجربة الأم الملهمة.
حفظ الله معلماتنا الأوليات، وأمهاتنا الفضليات.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك