لا تسمِّنوا الحيتان الجشعة!

مسعود الحمداني

كما للبحر حيتانه، فللبر كذلك حيتانه، ولكنَّ حيتان البر أكبر حجمًا، وأكثر شراسةً وخطرًا؛ فهي تأكُل الأخضر واليابس، وتقضِي على الشجر والمدر، وتتملَّك البلاد والعباد، تنظرُ إلى البعيد دون أن تتحرك من مكانها، وتأخُذ كلَّ ما تصل إليه يدُها ورجلُها وما يمتدُّ إليه بصرُها، وهي أكثر فتكًا من القِرش الأبيض، رغم أنَّها تدخر "قرشها الأبيض" ليومها الأسود، ولا تُخرجه إلا حين يبلغ الفطام، وهي لذلك تعيش بأمان وسلام، ولا يقربها إلا هالك، ولا يحاربها إلا خاسر.

حيتان البر -أيُّها الأعزاء- تعيشُ بيننا، لكنَّها لا تأكل مما نأكل، ولا تشرب مما نشرب؛ فأكلها الأراضي والعقارات، وشُربها المال والاستثمارات، تأخُذ من الوطن ما هي بحاجة إليه، وتُعطيه فُتات ما لديها، وتدَّعي الوطنية، وتخرج علينا بالشعارات، وجميل العبارات، وتتشدَّق بالإصلاح، وتدّعي محاربة الفساد، وهي أكبر المفسدين، وأعظم العابثين بمكتسبات البلاد، تكبر ثرواتها يوما بعد يوما، وتزداد سطوتها زمنا بعد زمن، و"تكوِّش" المال لأحفاد أحفادها، وتكدِّس المنافع الهائلة التي تحصل عليها مجانا من الدولة لنفسها، ولأبنائها، وأقربائها "إذا فاض شيء عن حاجتها"، بينما لا يرفُّ لها جفنٌ وهي تُشاهد أبناء الوطن يتزاحمون على أبواب الشركات ينتظرون فرصة لعيش كريم يَقِيهم سَوءة الأيام، وعثرات الزمان.

حيتان البر -أيُّها الكرام- مفتوحة لهم الأبواب على مصاريعها يأخذون منها ما يشاءون، دون أن يدفعوا شيئا، يكبرون كل يوم، ويلتهمون كل ما تصل إليه أعينهم، إذا مرض أحدهم لجأ إلى الدولة لتتكفل بعلاجه، وإذا وقع في ضائقة لجأ إليها لترفع عنه همَّه، وتُقيل عثرته، وإذا أراد أن يسافر للمتعة والسياحة وقضاء إجازته وقف على بابها يستجديها كي تساعده على مصاريف السفر، وإذا تقادمتْ سيارته تقدّم للدولة لتغيّرها له، أو تملّكه عصمة أمرها إنْ كانت السيارة ملكا للحكومة. أما إذا انقلبت الحال، وتبدَّل السؤال، وطالبت الدولة ببعض حقوقها عليه -في وقت الشدَّة- وضع أذنا من طين وأخرى من عجين كأنْ لم يسمعها، وتخلَّى عن مرُوءته، وتهرَّب عن مسؤولياته، ولبس قناعَ الوطنية الزائف، وخرج على الناس واعظا ومرشدا يدعوهم للوقوف مع البلاد في أزمتها، وتفريج كربتها!!

حيتان البر -أيُّها الأوفياء- كُثُر، لكنهم لا يظهرون، لأن جُلّ وقتهم يقضونه في التفكير في كيفية تكثير مُمتلكاتهم، وتعظيم أموالهم، وتكبير مزارعهم وشركاتهم وعقاراتهم؛ فهم لا يختلطون مع البسطاء من الناس، ولا يعرفون عن مشاكل المجتمع إلا ما يقيهم مصارع السوء، وحين "لا يلاقي المواطن الخبز ينصحونه بأكل البسكويت"، لأنَّ أبراجهم العاجيَّة لا تتيح لهم الرؤية الكاملة للمشهد، ولا يهمهم إنْ غرق المجتمع أو نجا؛ فالطريق لتهريب استثماراتهم ونقلها للخارج مُخطَّط له مسبقا، ومعمول حسابه، وعلاقاتهم التي بنوها مع تجار الشرق والغرب متينة حتى آخر قرش، وحياتهم شبه مضمونة ومؤمَّنة في جزر الأثرياء وملاذات الأمان بأعالي المحيطات.. ولن يبقى في وجه الأزمات إلا المواطن الكريم الذي لا مكان له ولا ملجأ غير هذا الوطن ليحيا أو يموت على ترابه.

الحيتان جَشِعون، أنانيِّون، لا يهمُّهم غير أنفسهم، يتناسلون في كل سانحة، ويتكاثرون دون هوادة، تغذّيهم المصالح، وتكبّرهم "اللوبيات" وسهرات الليل، ويساعدهم النفوذ، وتستثنيهم القرارات، هم أول من يأخذ، وآخر من يعطي، لذلك.. احذروا هذه الفئات المنتفعة من شحم البلد ولحمه، ولا تسمِّنوا -أيُّها المسؤولون عن الوطن- هؤلاء الحيتان الجشعة، التي وصلت حد التخمة وما بعدها.