نازك الملائكة: في شَفتيَّ يتفتقُ بيدرٌ

 

محمد علي العوض

أبرز علامة فارقة في تطور الشعر العربي هي الصورة الشعرية في الشعر الحر، فقد كانت دليلا على مواكبة جنس الشعر لتغيرات العصر؛ لذا اهتم شعراء الحداثة ببنائها وطرق تشكيلها حتى غدت ملمحاً بارزا يعبر عن أفكارهم وتصوراتهم للإنسان والكون. فهي المعيار الأبرز لجودة الشعر وبرهان تجربة الشاعر والوعاء الجامع لها عن طريق دينامية اللغة. وليست منفصلة عن ذات الشاعر ونصّه بل تنمو كما يقول محمد غنيمي في داخل الشاعر مع النص الشعري ذاته؛ وعليه فإنّ قوة الشعر تتمّثل في الإيحاء عن طريق الصور الشعرية لا في التصريح بالأفكار المجردة التي تجعل المشاعر والأحاسيس أقرب إلى التعميم والتجريد منها إلى التصوير والتخصيص.

قديمًا كان نمط الشعر الجاهلي يقترب من الوضوح في إجلاء الصورة الشعرية، وكان الشاعر كما يقول عز الدين إسماعيل يأخذ بالمُعطيات الحسية الظاهرة لخلق علاقة شعرية منطقية بلاغية بين المشبه والمشبه به، وينسج علاقاته الشعرية بمرجعية حسيّة يدركها العقل؛ بعكس الشاعر المعاصر الذي نحا بالشعر إلى عوالم أخرى بعيدة عن مدركات العقل والمنطق، ومسيّجة بظلال الرمزية والأحاسيس، الأمر الذي فرض أساليب جديدة في عملية التصوير الشعري بالاعتماد على الخيال والتشخيص والتجسيم والحلم وتراسل الحواس؛ بعكس آليات التصوير النمطي القديم.

للصورة الفنية مفاهيم مُتعددة ومختلفة باختلاف الأزمنة ومدارس الشعر؛ فهي عند الجاحظ "صلة التشابه بين الشعر والتصوير، والرسم والتخيل، ترتكز على الأشكال البلاغية: كالتشبيه، والاستعارة، والكناية". أما عند عبد القادر الرباعي فهي "هيئة تُثيرها الكلمات الشعرية بالذهن شريطة أن تكون هذه الهيئة معبرة وموحية في آن". وعند عبد القادر القط هي "الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني خاص ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة في القصيدة، مستخدماً طاقات اللغة وإمكانياتها في الدلالة والتركيب والإيقاع والحقيقة والمجاز والترادف والتضاد، والمقابلة والتجانس وغيرها من وسائل التعبير الفني، والألفاظ والعبارات" ويعرفها علي البطل بأنّها "تشكيل لغوي يُكوِّنه خيال الفنان من مُعطيات متعددة يقف العالم المحسوس في مقدمتها".

فهي إذن مرايا تنعكس عليها أفكار الشاعر بواسطة اللغة وتعمل كما أورد عبد الوهاب هلاوي على إنتاج الدلالة التي يتداخل فيها المتخيل بالواقعي في جسد اللغة الشعرية، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال المجاز وسياقات اللغة، لذا جاز أن نقول إنّ الصورة الشعرية عبارة عن فكرة مصورة تستنطق دواخل الشاعر، وتخرق التفكير المنطقي بما هو غير مألوف؛ كما في قول عنترة:

فَوددتُ تقبيل السيوف لأَنّها - لمعت كبارِقِ ثغرِكِ المُتبسّمِ

فالمنطق هنا لا يحمل أي وجه شبه محسوس بين السيف وشفاه عبلة إلا أنّ عنترة يخرق التفكير المنطقي القائم على عدم الشبه وينسج علاقات جديدة بين لمعان الشفة عند الابتسام وبين لمعان صفحة السيف تحت أشعة الشمس. في النص الشعري الحديث تقوم بنية الصورة الفنية على الكلمة الموحية ودلالتها العميقة والسطحية، وتنسج علاقات جديدة من خلال تبادل المدركات؛ بإضفاء الصفات المادية على المعنوية وبالعكس، وبأساليب كالتشخيص -إكساب المواد الحسية الجامدة صفات إنسانية- والتجسيد -تقديم المعنى في جسد شَيئي أو نقله من نطاق المفاهيم إلى المادية الحسية، كما في قول نازك الملائكة:

تعال نصيد الرؤى ونعد خيوط السنا

ونُشهد منحدرات الرمال على حبنا

فالصورة الفنية هنا مبنية على التجسيد من جانب، والتشخيص من جانب آخر، حيث يتمثل التجسد في منح الرؤى -كدلالة معنوية- صفات جسدانية وتحويلها إلى جسد حي يمكن اصطياده، كما تصبح خيوط السنا أجسامًا ملموسة، أمّا منحدرات الرمال فتكتسب صفة إنسانية من خلال التشخيص حين تتحول لشاهد عيان على الحب.. ومن ذلك قولها أيضا:

ويثمر غصن الكون ووجه الدجى يتغير

ويمطر نجم

وفي شفتي يتفتق بيدر

تحوي بنية الصورة في هذا المقطع عدة مشاهد، حيث نلمح فيها غصن الكون وهو يثمر، ووجه الدجى وهو يتغير، ونشاهد النجوم تهطل أمطارا، ثم يتفتق بيدر في شفتي الشاعرة، وتنسرب من هذه الصور استعارة مكنية، تعتمد على تقنية التجسيد التي تسند إلى المشبه به المحذوف صفاتٍ مادية تناسب أجسادا مادية أخرى فالإثمار يناسب الشجرة لا الكون، والأمطار تناسب الغيم لا النجم المنصهر الجاف البالغ الحرارة والمتضاد مع الماء. أمّا التفتق فيناسب الأرض لا الشفاه.. هذه المجازات تخترق نظام اللغة ومنطقية المعنى المعياري فتحدث تشويشاً وخلخلة في ذهن المتلقي الذي حين يستوعبها يصاب بالدهشة ويطرب للذة التصوير، وربما تقمص ذات الشاعرة الإنسانية وتجربتها.

في قصيدتها "الماء والبارود" تستوحي نازك الملائكة صورها الشعرية من قصة فرقة من الجيش المصري في سيناء نفد منها الماء إبّان حرب رمضان قبل موعد الإفطار فراحوا يتضرعون إلى الله؛ فجاءت طائرات إسرائيلية وقصفت المعسكر فتفجر الماء من الأرض حيث كانت مواسير الماء اليهودية مدفونة. ووظفت الشاعرة في لغتها الشعرية هنا النص القرآني وقصّة سيدنا إسماعيل وأمه هاجر حين تركهما أبونا إبراهيم بوادٍ غير ذي زرع عند البيت العتيق، وصوّرت فيها قلق السيدة هاجر بحثا عن ماء لوليدها:

هاجر دموعها صلاة

وصمتها شفاه

بائسة تصيح يا رباه

من أين يأتي الماء

في هذه المفازة الجدباء

وتهطل الدموع من شواطئ المحاجر السوداء

يا رب أعط طفلي الظمآن كأس ماء

اسق صغيري، اسق إسماعيل

فيستجيب الله دعاءها وتحدث المعجزة ويبعث جبريل عليه السلام فيضرب الأرض بجناحه لتخرج عين الماء فوارة دفاقة:

وتدفق المياه نشوى عذبة

من تحت رجله

شخّصت نازك الطبيعة عندما منحت الرياح والبيت العتيق لسانًا ناطقا، فالريح تنادي إسماعيل، والبيت العتيق يردد معها النداء، فتستجيب السماء كناية عن خالقها، وتتنزل عليهما الرحمة بنزول جبريل مفجرًا الماء تحت أقدام إسماعيل عليه السلام:

وقالت الرياح: إسماعيل

فردد البيت العتيق تحت حر الشمس إسماعيل

وانحنت السماء قوساً أزرقاً يلثم إسماعيل

وفي قصيدة الفصول الأربعة التي تقول فيها:

فكأن الحياة لم تبتسم إلا لتلقي سوادها في رؤانا

وكأن الزهور لم تنشر الأشذاء إلا لكي تثير أسانا

تعكس نازك رؤية شعرية سوداوية بمقاييس متناقضة؛ فبرغم تجسيدها لابتسام الحياة ينهض الظلام الحالك ليقيم متاريس البصر والبصيرة، ويصبح شذى الأزهار الذي يضوع في الأرجاء عبارة عن محفز يجعل الذاكرة تستدعي الأسى والحزن. وكأنّها تعتنق اللاثبات واللامسلمات في حركة التاريخ وسيرورته؛ فمن سره دهر ساءته أزمان، وأنّ أي صورة كونيّة تحمل في باطنها نقيضها وجدليتها وصراعها، فبمثلما أنّ هناك حياة فهناك موت، وطالما أنّ هناك فرحا فبداهة أن يكون هنا أسى.. هذا هو كنه الوجود في تقلبه الأزلي.