من الذي يُدحرج كرة الثلج؟

علي بن سالم كفيتان بيت سعيد

لا بُد أنَّ طبقة الجليد أصبحتْ سميكة بما يكفي للتزلج، فكرة الثلج تتدحرج عكس الجاذبية، وهذا شيء غير مألوف في نواميس الفيزياء، فقد سبق وتم تسخين المجلدة، لكنها استبقت بعض المكعبات التي ظلت صامدة في الحواف، لتلتحم مجدداً، مُشكِّلةً الكرة الضخمة التي باتتْ تتجه إلى رأس التل، فتتساقط منها في بعض الأحيان قطرات لم تَسقِ الزرع، ولم تُدر الضرع، فالأرض اهتزت وربت، لكنها أنبتت أعشابًا غير مُستساغة؛ لذلك ظلَّ الضرع المكتنز كما هو لأنَّ الحلَّاب يقول إنه مجرد شحم سيتم إزالته قريباً بعملية شفط للدهون، بينما المنتظرون على الطرقات يعتقدون أنه حليب كامل الدسم.

لا نعلم ما الذي يجري، لقد مال القطيع عنا، ولم تعد تحبل بقراتنا الحسان، فلا تسألوا السماء متى ستُمطرين؟ بل احمُوا الأرض من الآفات الفتاكة؛ فالرب كفيلٌ بالقطر، لكنَّ الحشرات الجشعة هي من أهلكت محصولَ الليمون؛ فالمكنسة الساحرة وأخواتها لا تبقِي ولا تذر، لقد تسلَّلت إلى جذوع أشجار الليمون وأهلكتها، ودوباس النخيل يقضي على نخيلنا الباسقة فيُرديها على الأرض الواحدة تلو الأخرى، أما باقي البستان فأعجاز نخل خاوية، إنه الدوباس اللعين يُرش ليل نهار، لكنه لا يزال مُتمترسا في معظم الأنحاء، وباقي الأرض تنتظر دورها للرش بذلك المحلول القلوي الذي هجَّر نحل الجبل من مكامنه الآمنة، فاستبدله النحَّالون بمناحل كرتونية، واستقدموا نحلًا لا يلسع، فتغير طعم العسل.

المُعالجات لم تكن ناجعة؛ لذلك الأرض باتتْ تَئِن من فعل المحراث الأعوج والثور الأعمى الذي يجره بعيدا عن جداول الأفلاج ومجاري العيون، وبعد أن أصبح على مسير دهر انتبه، وقال لهم عليكم بإحضار السواقي، فالعودة باتت مستحيلة، وهنا انتهت الحكاية، وجفت الينابيع وهي في طريقها إلى تلك الرمال القاحلة.

لا يستسيغُ العاقل لغة التعامل مع أزمة الباحثين عن عمل، ومن كِلا الطرفين الأمر بات سيَّان؛ فالمجتمع لا يتوارى عن صبِّ جام غضبه وبشكل موجَّه وغير مقبول على القوميات الأخرى في الوطن التي شكَّلت جزءًا مهمًّا منه بواقع التأقلم والعيش المشترك، ومن ثمَّ التمتُّع بحقوق المواطنة الكاملة، أو عن طريق العمل بإخلاص ورسم خط نجاح بعد تحويل أنصاف الفرص إلى فرص كاملة، وكم يُحزننا أن نرى التوظيف السياسي الخاطئ لهذه الأزمة؛ فمواقع التواصل الاجتماعي تعجُّ بمشاهد لزيارات رسمية على مستويات عالية يتم تحويرها لزرع الكراهية ضد الآخر، فما الذي يضير أن يلتقي رئيس وزراء بجالية بلاده ويحتفل معهم وفق طقوسهم ومعتقداتهم، ونحن الذين ننادي بالتسامح، ونفتخر به بين كل أمم وشعوب الدنيا.

من لا يَقرأ تاريخ الإمبراطورية العُمانية، ونشأتها، وامتدادها لمساحات شاسعة، واحتوائها لحضارات وثقافات أخرى، وصهرها بين العمامة والخنجر، يضيق صدره بتنوع الإثنيات والقوميات التي شكلت هُوية هذا البلد العظيم على مرِّ الزمن؛ فحسب الروايات أنَّ عُمان هو اسم رجل، فهل يُعقل أنَّ من لا ينتسب له ليس له مكان في هذا الفضاء؟ إنَّها نظرة قاصرة، وانغلاق يفتقد لدلالات الجغرافيا وموجبات التاريخ.

إنَّ الأممَ الأخرى من حولنا -كالهنود والفرس والأفارقة... وغيرهم- حواهم الفكر الكبير للسيد سعيد بن سلطان، فأسَّس إمبراطوريته على ركائز متينة؛ فأنشأ كيانا سياسيا إمبراطوريا من مختلف القوميات والإثنيات، ومنح الجميع مساحة كبيرة من حرية العبادة والتعبير عن الموروث والثقافة، بما لا يتنافى مع الآداب العامة للأخرين. ومن هُنا، نستلهم كيف سُدنا المنطقة، وأصبحنا نزاحِم أعتى الإمبراطوريات في العالم آنذاك.

الحضارة البشرية هي فكرٌ تراكميٌّ لا غِنى له عن التواصل مع الأمم الأخرى، والاستفادة من تجاربها، بل وتوطينها؛ فالمملكة التي لا تَغِيب عنها الشمس لم تقم على الإنجليز، بل كانت نتاجَ فكرِ العديد من الأمم والحضارات الأخرى، والأمر ذاته في الولايات المتحدة الأمريكية، والمتردد على شوارع لندن ينتابه شعور غريب من كثرة الأجانب غير ذوي البشرة الحمراء، ولمن لا يعلم فإنَّ عمدة لندن اليوم هو مسلم من أصل باكستاني.

وفي الضفة الأخرى من أزمة التوظيف، يقبع الفكر التقليدي القائم على اجتراح الحلول من الصينية الفارغة عن طريق الضغط المتواصل على القطاع الخاص لخلق فرص عمل وهمية؛ حيث يصبح العامل اليوم باحثاً عن عمل في غضون أسابيع من توقيع العقد بحكم التوظيف غير المستدام والمعالجات غير الجادة، ومن هنا نجد أن الأزمة تتعاظم مثل كرة الثلج التي تتدحرج على مخزون هائل من الجليد، الذي آن الأوان لذوبانه.