يرى أن الجاحظ رائد نظرية "الأنسنة" ومؤلفاته تجيب عن أزمة الثقافة العربية

غسان عثمان لـ"الرؤية": جلالة السلطان جذّر "ديموقراطية اجتماعية" حين أعاد ترتيب القبيلة في جوف الدولة الحديثة

...
...
...
...

 

  • الجابري ابن رشد القرن العشرين.. و"نقد العقل العربي" يعيد توصيف علاقتنا بالتراث
  •  صراع الهوية أزمة.. ومجتمعاتنا العربية تشكلت وفق إرادات خارجية.. "سايكس بيكو" نموذجا

 

 

هو نموذج للمثقف العربي الشامل الذي يشيد بناه الفكرية الخاصة وسط دروب وعرة يحاول فيها تفكيك مقولات ابن رشد وابن خلدون، ومقاربات محمد أركون، وفتوحات محمد عابد الجابري في مقاربته ونقده للعقل العربي في زمن الحداثة؛ بأدوات تستدعي القراءة التحليلية والنقد الموضوعي. ويحضر التاريخ ثيمة أساسيّة في المنتوج المعرفي والفكري للباحث السوداني غسان علي عثمان بإثارة أسئلة تفتح مداركها على أشرعة نقد العقل ومسائل الهويّات والعلمانية.. وفوق ذلك هو معد ومقدم لبرنامج "الوراق" التلفزيوني؛ أحد أشهر البرامج الثقافية على الفضائيات السودانية.. صدرت له العديد من الكتب والأبحاث من بينها: "العلمانية.. قراءة في المصطلح والمشروع"، "الهوية السودانية.. تفكيك المقولات"، "ديكور العويل في نقد النخبة السودانية"، "محمد عابد الجابري ومشروعه النقدي".

ويؤكد عثمان في حوار مع "الرؤية" أن حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- استطاع خلال عقود النهضة المباركة أن يجذّر "ديموقراطية اجتماعية"، وذلك من خلال سياساته الحكيمة التي أعادت ترتيب القبيلة في جوف الدولة الحديثة، القائمة على الإدارة المؤسساتية والتطبيق الواعي للقانون.

حوار - محمد علي العوض

•    المثقف الآن هو من يتحمل مسؤولية الكلمة رسالةً قولا ونشرًا ولكن خطل المناهج أحيانا والاستقطاب أو التقاعس عن البحث في الحقائق وتحولاتها يلقي بظلال سالبة على المتلقي والمثقف نفسه ويصنع بونا شاسعا بين الطرفين.. برأيك ما الحل؟

- في البدء أشكر صحيفة "الرؤية" الغراء على هذا اللقاء راجياً لها كل التقدم والنجاح في دروب التنوير، وأتمنى أن نقدم ما يفيد وينفع القارئ العزيز، سؤال الثقافة هذ سؤال إشكالي، وبطبيعة الحال فإنّ الفاعل الثقافي هو التجلي الحر لهذه الإشكالية، وتعود إشكالية السؤال إلى السياق الذي يُطرح فيه، فالمثقف في الوطن العربي يحمل هموما ومشاغل تختلف عن المثقف في أوروبا أو أمريكا أو في الهند أو أي مكان آخر في العالم، ويبدو لي في ذلك أنّ الحديث عن "المثقف الكوني" أي العابر للحدود لا يعدو كونه تجاسرا غير أمين، ومحاولة تسعى لتعميم الظواهر الاجتماعية، والقفز بالقوة ناحية تفكيك الخصوصية، والنيل من حق الذات في أن تُعبّر عنه نفسها كيفما هو واقعها، وسؤالك حول المثقف، فإنني أرى وظيفة المثقف الحقيقية هي المبادرة، أي أن يكون قادراً على الاجتراح والتفاني، الصدق والعدالة، وهذه مهمة شبه مقدسة، ويذكرنا ذلك بمقولة دستوفيسكي "إنّ القيام بخطوة جديدة أو التلفظ بكلمة جديدة هو أكثر ما يخشاه الناس" ولذا فإنّ المثقف مغامر بالفطرة، والواقع يشبه الفريسة، وعلى المثقف أن يتقن الصيد بشرف، وألا يرضخ للمؤقت.

 

•    ما هو سؤال الثقافة السائد الآن في عالمنا العربي.. وكيف نصيغ الإجابة عنه؟

-  ظلت الثقافة العربية ومنذ طفرتها في القرن الثالث والرابع الهجري تعاني من مشكلة أساسية وهي هيمنة المنطق الثنائي عليها، ولو جربنا أن نقرر أمثلة لذلك فإننا لن نعدم، خذ مثلاً مثقف مثل الجاحظ في القرن الثالث الهجري، هذا الرجل لعله الوحيد الذي استطاع أن يتخلص من هذه المنطق، وأن يعيد تركيب الأسئلة لصالح البحث في المخفي والمُبعد والمُستثنى بغير إلا، إنّ مؤلفات الجاحظ هي الإجابة عن أزمة الثقافة العربية، ذلك أنها رامت الوصول إلى النقطة الأصعب، والجاحظ في زمانه البعيد سبق محمد أركون في القرن الحادي والعشرين فيما سماه "الأنسنة" فأبو عثمان الجاحظ هو رائد هذه النظرية قبل ولادتها الراهنة، ولذلك أرى أنّ سؤال الثقافة العربية الواجب طرحه يتصل بتعزيز هذا الوجود المفقود، وجود الإنسان في قلب الظاهرة، وبذلك فقط نستطيع التخلص من الثنائية التي عرضت وجودنا الثقافي لمآزق شتى، ليس أقلها تفشي الصدام والإنكار، والسعي للشخصنة، والتخلص من النقد لصالح الاستسلامية واليقينية، إنّ أهم سؤال يجب طرحه يتلخص في إعادة "الأنسنة" العربية المفقودة إلى حيز الفاعلية الاجتماعية، لنعد ولو لوهلة إلى كتابات الجاحظ والتوحيدي.

 

•    لك مؤلفات ناقشت مسألة الهوية السودانية وتجاذباتها القبلية السالبة، وبالقياس مع سلطنة عمان نجد أن السلطان قابوس -حفظه الله ورعاه- قد نزع عن القبيلة في عمان ثوب التعصب وألبسها لباس الوطنية، هل بالإمكان في السودان تطبيق التجربة العمانية وتذويب القبيلة في الدولة لا الدولة في القبيلة كما يحدث فيه الآن؟

•    صراع الهوية أزمة، والأفضل أن نسميه مسألة المسائل، فمجتمعاتنا العربية تشكّلت وفق إرادة خارجة عنها، (سايكس بيكو) مثلاً، ولذا فإنّ الدولة العربية القطرية الحديثة وجدت نفسها أمام سؤال، من نحن؟! ونحن هذه كانت غائبة عندما كان المحدد القبلي يثمر في التوحيد ولا يصنع الفرقة، وفي تقديري سيظل سؤال الهوية حاضراً لأنه يتصل بالمتغير الأكبر في الحضارة، وهو المتغير الثقافي، والذي من شروطه ألا يجد تعريفاً لنفسه، بل يظل يهرب باستمرار، وحقيقة إن تجربة سلطنة عمان تؤكد لنا إمكانية إعادة ترتيب القبيلة في جوف الدولة الحديثة، وقد تم ذلك بذكاء حقيقي، لعل أبلغ ما يمكن أن استخدم من وصف لهذه الحالة الفريدة أن أقول أن سلطنة عمان جذرت "ديموقراطية اجتماعية" استطاعت بها أن تحفظ لكل مكون حظه من التعبير عن نفسه في ظل إطار كلي وشامل يجمع ولا يصادر.

إن قيادة هذه البلاد نجحت فيما نجحت فيه لأنّها حازت الإرادة وأنجزت مشروعها في ظل رعاية كريمة وحكيمة من السلطان قابوس، وهو رجل صاحب مشروع كبير منذ توليه السلطة، ولا أبالغ أن قلت بأن هذه التجربة في الدمج الناعم والمتدرج للهوية العمانية التي تشبه إلى حد كبير الهوية السودانية في تعددها وتنوع ألستنها وأمزجتها الثقافية، هذه تجربة تستطيع أن تكون النموذج القابل للتطبيق بشكل فريد.

 

•    كيف تقرأ المنجز الادبي العماني اليوم؟

 

المشهد العماني مختلف ومتميز وفيه جِدة، وفيما قرأت من مؤلفات لكتاب وكاتبات عُمانيات فإنني قد وجدت أعمالاً تمتاز بلغتها الخاصة ومشاغلها، وشعراء هذا البلد يملكون أصواتهم الخاصة، ولعلنا نحتاج في الوطن العربي إلى النظر أكثر إلى هذه المنتوج والعمل على قراءته نقدياً وجمالياً، وأظن أنه أدب يغشاه تغييب غير متعمد، وأن راهننا الثقافة العربية أثبت وجود مراكز إبداعية جديدة غير تلك التي ألفناها، وعُمان مؤهلة للقيام بدور هذا المركز الذي يشع على بقية أطراف الوطن العربي ويعمل كذلك على تقديم إبداعه الخاص وإبداع الآخرين.

 

•    لك كتاب ناقشت فيه نقد "الجابري" للعقل العربي.. ما فائدة تعريف القارئ بمشروع الجابري، وما الثيمات الأساسيّة التي بني عليها الجابري مشروعه، وكيف نستوعب ذلك؟

الجابري هو بن رشد القرن العشرين، وحينما أقول ذلك فلا أعني أنّه نسخة مُحدثة من الرجل فقط، بل إنّه يحمل الهموم ذاتها ويشتغل بالأدوات المنهجية ذاتها في فهم التراث ودوره وموقعنا فيه، يكفي أن نشير بأنّ مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي هو المشروع الوحيد في القرن العشرين الذي عمل على إعادة توصيف علاقتنا بتراثنا، وفي ذلك يقول الجابري "إننا نعيش في التراث، والتراث يعيش فينا" وقد قدّم عبر مؤلفاته في هذه السلسلة رؤيته حول ما ينبغي أن يكون عليه النظر في التراث، وأن نتخلص من هيمنة التراث؛ ولا يعني ذلك بأن نعمل على إعدامه، أو أن نحتفظ به في المتحف للزيارة المجانية، بل عمل الرجل على إقامة قواعد للحوار بيننا والتراث، وقد درس مصادر تَكوّن هذا العقل العربي منذ أن أصدر كتابه "تكوين العقل العربي" في مطالع الثمانينات من القرن الماضي، واستمر بالتحليل والتشخيص في مؤلفه "بنية العقل العربي" ليقول لنا بأنّ ثمة أنظمة معرفية تتحكم فينا ولو في بنية اللاوعي، واستمر الرجل في (نقد العقل السياسي) و (العقل الأخلاقي العربي) وغيرها من المؤلفات. واعتقد أن أهميّة مشروع محمد عابد الجابري تعود إلى حاجتنا نحن إلى منهج نستطيع أن نفهم به تراثنا، وأن نقيم علاقة صحيّة معه، كل ذلك لصالح فهم جديد لواقعنا الذي نعيش.

 

*  خطابك لا يخلو من الثيمة التاريخانية كمصدر لقراءة الحاضر والبحث في قوانين التغيير الاجتماعي.. ما وراء ذلك؟

هذا سؤال مهم، في كثير مما نعرض له عند ممارسة التحليل نكرس أشغالنا على نوع من التسليم بهيمنة المقولات والعمل تحت سطوتها، والغائب هنا عودتنا لإجراء التحليل من خلال مقاومة المقولات والدخول للبنية التي أنتجت تلك المقولات، وما دخولنا إلا بغرض نقدي جديد يفكك المصدر دون القطيعة معه، وهذا التفكيك لا يروم الإبقاء على تشريحنا بمنأى عن إعادة التركيب، لذلك ينصب جهدي على محاولة فهم الطريقة التي تتكون بها المقولات، فهمها.. درسها.. تجلياتها الكبرى، هذا أمر دقيق ومربك، لأنّ الكلام العادي يدخل ضمن هذه التسوية؛ تسوية فهم الواقع وإكراهاته، ودرسي يعيش حالة من تحييد هذا الذي نسميه واقعاً، لأنّه بدون فهم الفاعل الاجتماعي؛ موقعه.. مشاغله.. مظانه.. بل حتى تخرصاته، فالسبيل لفهم الواقع يظل يتخفى ويمارس سياسة الإبعاد للنقد.

تعليق عبر الفيس بوك