الهروب برًّا

علي بن سالم كفيتان بيت سعيد

قضوا ليلة مطرح في إحدى عشش الصيادين بالقرب من الميناء والسوق، وكانت رائحة السمك المنبعثة من أطراف الأسماك الملقاة على الساحل وحرارة الجو تجعل المكان غير مريح، لكنهم ناموا لأنَّ الأجساد مُرهقة، ومع حلول الخيط الأول من الصبح، أيقظهم صياح الديكة وحركة الصيادين في الميناء، فقاموا وصلُّوا الفجر في جماعة أمام العريش الذي قضوا فيه ليلتهم، وتناولوا بعضَ حبات التمر التي كانت بحوزتهم من صور، وبعد طلوع الشمس انسحبوا إلى السوق مجددا، وسألوا أحد التجار عن كيفية استخراج جواز السفر، فأرشدهم الحاج سلطان إلى السير على الاقدام عبر عقبة ريام، والوصول لمسقط؛ حيث مأمور الجوازات، ونبههم لضرورة أخذ صور شمسية، وصحبهم للمصور الذي كان يصطف أمام محله عدد من الناس، بُغية التصوير لاستخراج جوازات سفر أو أوراق ثبوتية أخرى.

دخلوا عليه عُصبة، فأخبرهم المصور بأن الصور تُؤخذ بشكل فردي، ويجب عليهم ارتداء المصر، وأن تكون الثياب لائقة؛ فمعظم القادمين من الجنوب يلبسون رداءين أحدهما كإزار والآخر لتغطية بقية الجسد من الأعلى، ومن طرائف الأمور أنَّ الدشداشة المعدة لدى المصور لهذا الغرض كانت ضيقة، ولم تكن ملائمة، فاضطر المصوِّر للذهاب إلى بيته لإحضار أخرى تتلاءم مع أجساد هؤلاء الرعاة مفتولي العضلات، وكان عليهم الانتظار إلي اليوم التالي، أو دفع ضعف القيمة لاستخراج صور سريعة، فاختاروا الخيار الأخير، وفي غضون ساعات بات كل واحد منهم يُحملق في صورته الجديدة، ضاحكا تارة، ومستغرباً تارة أخرى؛ فقد تغيَّرت المعالم مع الدشداشة والعمامة.

وقبل حُلول الظهر، ركبوا طريقَ عقبة ريام، ومن ثم نزلوا إلى مسقط، وهناك أرشدهم المارة إلى مكتب السيد ثويني، ومقر مأمور الجوازات، فاصطفوا مع طالبي الجوازات، فدخلوا الواحد تلو الآخر، ومن الباب الخلفي يخرج كل واحد منهم، وهم مُمسك بذلك الدفتر الأحمر (جواز السفر)؛ فكان يوماً مُوفقاً، ثم قفلوا راجعين الى مطرح مع قوافل الحمير المحمَّلة بقِرب الماء، والكثير من المارة الذين يقصدون قضاء حاجياتهم من سوق مطرح قبل حلول المغرب الذي تغلق فيه بوابة المدينة، ولا تفتح إلا في صبيحة اليوم التالي.

وبعفوية، بحثوا عن سفينة الربان العلوي، لكنهم لم يجدوا لها أثراً في الميناء، وعندها أصابتهم الحيرة والدهشة، فما الذي حل بالرجل، ولم يكونوا على دراية بأنَّ عليهم استئجارَ خشبة أخرى إلى العالي (الخليج)؛ فمُهمة العلوي تنتهي في مسقط، وهنا غابت فرحتهم بالجوازات وبدأت رحلة البحث عن بديل لاستكمال بقية الرحلة؛ فما كان منهم إلا أن عادوا إلى محل الحاج سلطان في السوق؛ فالرجل كان لطيفاً معهم ذلك الصباح، فسألوه عن الوضع فأخبرهم بأنَّ خشبة العلوي عادت إلى صور ومنها إلى ظفار، وهذا هو خط سيرها، وعليهم الآن الانتظار حتى إيجاد خشبة أخرى تُقلهم إلى وجهتهم، وعرض عليهم الإقامة معه لكنهم رفضوا، وعادوا في ذلك المساء إلى عريشهم الذي قضوا فيه ليليتهم الأولى، إلا أنه كان مشغولا بأناس أخرين، فافترشوا الأرض والتحفوا السماء بانتظار ما سيحل غدا.

وفي صبيحة اليوم التالي، تغيَّر كل شيء، لا وجود لسفن شراعية في الميناء، والناس يغلقون محلاتهم التجارية، وحركة سريعة تدور في كل الأنحاء، ودكان الحاج سلطان مغلق.. ما الذي يجري؟ سألوا عددا من المارة ولم يجدوا جوابا، ونصحوهم بالتخفي وعدم الظهور في الأماكن العامة، وأمام هذا الوضع ركنوا إلى أطراف قرية مطرح بين أزقتها الضيقة، وعلى مقربة من الجبال، فكانوا يخططون لبلوغ قمته في حال حدوث مكروه، قال أحدهم لا بد أنَّ أمرًا جلل قد حدث، يجب أن نهرب من هنا، فقد نعتقل ويقذف بنا في كوت جلالي الشاخص أمامكم على رأس الجبل، لا بد أنَّ الثورة أحدثت أمرا عظيما في ظفار.

فمشُوا راجلين على طول الطريق المؤدي للغرب حتى وصلوا مدينة السيب، وهناك بحثوا عمن يقلهم إلى دبي عن طريق البر، فوصلوا إلى رجل لديه سيارة دودج حمراء، وبعد مفاوضات مريرة اتفقوا، وأقلهم في ذلك المساء من السيب عبر منطقة الباطنة؛ فكانت الطريق صعبة؛ ففي بعض الأحيان تغرز السيارة في الرمال، وفي أحيان أخرى تعلق بين الصخور، ولم يكن لديهم مؤنة غير القليل من التمر والماء حتى وصلوا إلى مشارف مدينة دبي في آخر الليل. وهنا، قال لهم السائق: أنا لا أستطيع الاقتراب أكثر، عليكم المكوث في هذه الغابة من أشجار الغاف، وعندما يحل الصبح ادخُلوا السوق، ومن هناك يمكنكم حجز سفينة إلى قطر.. كان الجو قارسَ البرودة، فاحتطب الريفيِّون، وأوقدوا نارهم، وتحلقوا حولها، وغفوا على بساط من الرمال الباردة.