القبر المنبوذ

نعيمة قربع | تونس


  لا أحبّ حضور حفلات الزّواج في بلدتي ولا حضور الأعياد والمآتم ..أكره أن أحسّ بالإجبار وكلّ دعوة أتلقّاها تشعرني بالقهر لأنّي لا أستطيع أن أرفضها مهما كانت أهمّية ما سأفعله يومها ,فأرغم نفسي على السّفر  وأجتهد لإخفاء انزعاجي واضطرّ لتبرير استعجالي للمغادرة وقد ألجأ إلى اختلاق أعذار وحتّى أكاذيب..

تلقّيت منذ مدّة دعوة لحضور حفل زواج ابنة أخي..وطبعا حضرته بكلّ تبرّمي وانزعاجي وإلاّ صنّف غيابي جريمة نكراء لا تغتفر أستحقّ بسببها قطيعة أخي وتألّب العائلة عليّ ..وصلت يومها مساءا وكان العرس قد بدأ..البيت يعجّ بالنّاس.. الأطفال بكلّ شغبهم و حيويّتهم المزعجة وصراخهم يسيطرون على المكان .. والعروس جاهزة بكامل حسنها وزينتها ..بعد حوالي السّاعة حضر العريس و أهله ثمّ فوضى و جلبة وزغاريد وأخذ وردّ وصور كثيرة, وتحوّلت السيّارات الرابضة أمام البيت إلى علب سردين تتأوّه من ثقل الحمل ورغم ذلك انطلقت زاحفة متلاحقة منتظمة في صفّ طويل كأنّه أفعى عملاقة مطلقة العنان لأبواقها ..هي ليلة طويلة كان عليّ أن أعيشها بكلّ تفاصيلها و أن أشهد كلّ مراحل تسليم البنت إلى العائلة الجديدة وألّا أعود إلّا آخر اللّيل لأبحث لي عن ركن أنام فيه وسط الأشياء المكتظّة            والوافدين.
وصلنا بيت أهل العريس فوجدت جوّا لا يختلف كثيرا عن الذي خلّفته ورائي منذ حين.. زغاريد و بخور وصور وجلبة وأطفال وموسيقى صاخبة.. نظّم الحفل في ساحة فسيحة أمام البيت الرّيفيّ تتصدّرها منصّتان متقاربتان واحدة للعروسين و أخرى للفرقة الموسيقيّة وأمامهما حلبة للرّقص ..اخترت مكانا بعيدا نسبيّا عن الأضواء ومضخّمات الصّوت ورحت أتفرّج ..التصق بصري بجمع من النّساء و الفتيات يرقصن, لا بدّ أن يكنّ من أهل العريس  فما زلت أسمع أنّ من ترقص في عرس غير أقاربها المقرّبين جدّا هي امرأة منفلتة وغير محترمة..

تابعت رقصاتهنّ بكلّ انتباهي وإعجابي ففيهنّ من أبدعت حتّى بدت كلوحة فنّية و حتّى وجدتني أستحلفها في سرّي ألا تتوقّف عن الرّقص أبدا.. غرقت في لوحة الجمال الرّاقصة تلك ..في الأجساد التي خفّت توقا إلى تحليق حتّى حلّقت أنا أيضا و إن لم أتحرّك من مكاني .. رقصت في خيالي بكلّ ذرّة من جسمي ,كنت أتمايل و أدور , أهتزّ وأنتفض ,أنحني وأنتصب, أقع وأنهض وأتحرّك بل أطير.. ونسيت عيناي الذّهاب نحو لوحة العروسين الجالسين كتمثالين يبتسمان للمصوّر والنّاس ابتسامات بلاستيكيّة مكرّرة..
 
بعد وقت ليس بالقصير توقّف العزف وانصرف العازفون والجمع الرّاقص يلتمسون بعض راحة ولذائذ جادت بها أطباق وكؤوس.. جذبت إحدى النّساء كرسيّا وجلست إلى جانبي ..كنت رأيتها ترقص منذ حين .. عينان زرقاوان و بشرة بيضاء وشعر قصير أشقرغزته شعيرات بيض فلم يبال.

بادلتها الابتسام و سرى بيننا استعداد للتّواصل مع شعور بالارتياح ..لم تسألني عن شيء ولا حتّى عن اسمي أو صلتي بالعروس..فقط حدّثتني عن نفسها.. اسمها مارغريت وهي فرنسيّة ..تحدّثت في لغة هي مزيج من اللّغتين ..قالت إنّها وحيدة والديها, ورثت عنهما ثروة طائلة ثمّ تزوّجت به مهاجرا فقيرا يائسا ..أحبّته الى درجة أن تركت بلادها وأهلها وجاءت معه تحمل حبّها وأموالها.. ثمّ أصبح زوجها فلاّحا غنيّا يملك أراض وآلات حصاد وسيّارات.. وهذا العريس الجميل هو ابنها.. حدّثتني عن ذكرياتها البعيدة, عن عملها هناك ,عن بلدها الذي تشتاقه عن إسلامها والسّور القصيرة القليلة التي تحفظها ولا تفهمها, عن عائلة زوجها و تغييرهم اسمها إلى وسيلة ,عن ختان ابنها والعادات التي تعلّمتها ,عن الأطعمة التي أصبحت تتقن اعدادها... وأرتني حتّى كفّيها المخضّبين بالحنّاء... انتهى العرس وقد عرفت عنها كلّ شيء...ثمّ نسيت أمرها.
بعد شهر كان العيد وأيضا كان عليّ أن أقضيه مع العائلة كالعادة .. وأنا أكره هذا اليوم لأنّه مناسبة لتكلّف السّعادة بلا سبب ,بلا صدق وبلا فرح حقيقيّ ..مناسبة لافتعال لقاءات بروتوكوليّة دون عاطفة ودون رغبة حقيقيّة في اللّقاء ..وأكرهه أيضا لأنه يوم فرح مخصّص للأموات ..هو اليوم الوحيد الذي يتّفق فيه الجميع على تذكّرهم وزيارتهم وحتّى البكاء عليهم ..ومن يتخلّف عن هذا الطّقس صباح العيد متّهم بخيانة ذكرى موتاه بالنّسيان . وقفت على قبور كلّ أموات العائلة في يوم العيد ذاك ككلّ مرّة و لم أنس أحدا.. مددت يديّ وقرأت الفاتحة ثمّ مسحت بكفّيّ على وجهي تماما كما يفعل الجميع...

مقبرتنا بلا أسوار تتربّع على ظهر هضبة خارج البلدة ,تسلّلت بعد أن أنهيت طقوس الحزن الممزوج بطعم العيد ومشيت حتّى بلغت أطرافها .. سبق وأن سمعت  كثيرا عن قبر منبوذ أبعد عمدا عن قبور المسلمين  والمسلمات ,صاحبته امرأة أجنبيّة رفض بعضهم أن يسمح لجسدها أن يجاور أجساد أمواتهم..  كان ذلك منذ زمن بعيد قرابة العشرين سنة حسب ما يروون ..كنت في كلّ مرّة أزور فيها المقبرة أبحث بصمت عن القبر الحزين, ويومها قرّرت أن أسأل فأروني ّإيّاه ..قصدته ,وقفت عليه ,بعض القبور زحفت مقتربة منه و لكنّه مازال وحيدا مبعدا ..كان قبرا مهملا تهدّمت حواشيه قابعا بلا طلاء أبيض كبقية القبور, تحضنه الأشواك من كلّ جانب.. استرجعت حينها ضجيج أناس وقرقعة  فتاوى لا ترحم, ووجدتني أحتجّ بلا صوت ثمّ وجدتني أنتبه الى إمرأة تجلس عنده و تضع يدها على خدّها  و تطرق بوجهها الى الأرض.. تذكّرت امرأة العرس.. ثمّ... اختفت المرأة حين انشغلت بقراءة الاسم المحفور على القبر ..قرأته بصعوبة ..كان اسمها وسيلة.

تعليق عبر الفيس بوك