رُبَّمــــا


نيران الطرابلسي | تونس
لا أعرف إن كنت أتوهم، أم أن الأمر حدث حقا، ربما كنت أتخيل .. فكلّ ما أذكره الآن هو قصة طوية نسجها خيالي، ولا أعرف أيضا إن كنت أتذكر الأمر جيّدا أم أني بصدد إعادة كتابة قصة أخرى مشابهة لها، ابتكرتها الآن، تدور أحداثها في رأسي فأكتبها بطريقة جديدة، أو ربما لم يحدث شيء لأتذكره وأن عقلي اخترع الحكاية بدافع الملل.. هل كان الفصل خريفا أم صيفا أم شتاء، أذكر أني لم أكن أرتدي معطفا يومها، فستان من الكتان يصل إلى الركبتين وحقيبة من السعف،  لونها مزيجا بين الأخضر والأصفر، وهو ما يجعلني أظن أن الفصل كان خريفا.. دخلت مقهى صغيرا في أول شارع "فلسطين"، جلست قرب النافذة بعد أن وضعت حقيبتي فوق الكرسي المجاور، لم تكن الرؤية واضحة بسبب دخان سجائر المراهقين الذين يجلسون هنا دائما حتى يخيل إليك وأنت تدخل المقهى في الصباح أو في المساء أنهم ينامون هنا، الوجوه ذاتها، الأحاديث، الموسيقى، الثياب.. هل كانت تلك المرة الأولى التي أدخل فيها إلى المقهى؟ أم أن الحالة التي كنت عليها فقط من أشعرتني بألفة المكان والوجوه والموسيقى ودخان السجائر؟.. كنت أنظر إلى النافذة حين اقترب مني شخص ما وسألني بابتسامة مرحة :"ماذا أحضر لك؟".
هل هو في العشرين من عمره؟، ربما في الثلاثين.. هل يدرس بعد العمل أم قبله؟.. ماذا يفعل في أوقات فراغه؟، يبدو مألوفا جدا هذا الوجه الطفولي، هل التقينا سابقا؟، هل تواعدنا على شيء ما؟، هل أحببته كما لا ينبغي؟، هل انتهت علاقتنا بخيانته لي أم خيانتي له؟..
- هل أعرفك؟
- ماذا؟  
- هل تعرفني؟
هل حقا دار بيننا ذلك الحوار؟، أم أنّني أردت ان أسأله ولم أفعل.. هل طلبت قهوة يومها؟ أم مجرد كوب ماء؟، لماذا لا نتذكر أصوات الأشخاص.. لماذا نتذكر كلماتهم بأصواتنا، هل لأننا نعيد حديثهم إلى أن نحفظه؟، لماذا لا نتذكر كل الكلام الذي يقال لنا أو نسمعه صدفة دون قصد؟، أشعر أني خضت هذا الحوار سابقا، كلّ شيء مألوف..
-تبدين جميلة اليوم، رغم الأسئلة الساذجة التي تطرحينها..
-وكيف أبدو في باقي الأيام؟
- جميلة أيضا، لكن اليوم أجمل بكثير..
-هل ستجلس معي؟
-نعم إن سمحت لي..
هل مارسنا الجنس مرارا؟ هل أعرف جسده؟ هل سبق وأهداني ورودا هل تشاركنا شيئا ما؟ متى التقينا أول مرة؟، لا أذكر، إلهي إني لا أذكر، هل هذه المرة الأولى التي نلتقي فيها؟، "كل لقاء أول هو بماثبة جرح"، كان "باتريك موديانو" أو "بوسمان" لا فرق بين الكاتب وبطل قصته أليس كذلك؟، حين كتب "باتريك" تلك العبارة التي ظلّ يرددها "بوسمان" وهو ينتظر "مارغريت" عند مخرج المكاتب وهو خائف جدا أن لا يلتقي بها أبدا.. لم يكن يدرك أنه سيأتي يوم تجلس فيه فتاة ما في أقصى الكرة الأرضية في مقهى الدخان، تنظر إلى رجل ما وهي غير قادرة على التميز بين ما هو خيال وماهو واقع وما هو حلم.. ربما استطاع "بوسمان" أن يدرك ذلك وهو يمسك بيد "مارغريت" في زاوية شارع "دي بيرشون"، استطاع في النهاية أن يستسلم لخيال "باتريك" ويضع حياته بين يديه، لكنني لم أستطع أن أستسلم .. ربما لأني مازلت لا أعرف من الذي يكتب قصتي..
إذن حدث ذلك في أواخر الصيف الماضي، فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها تدخل مقهى في أول شارع "فلسطين"، تضع حقيبة صغيرة من السعف فوق الكرسي المجاور لها، وتطلب قهوة من النادل الذي يبدو في العشرين من عمره، وقبل أن تدفع له ثمن القهوة تنظر إليه بارتباك وتقول بصوت واثق:
-سأنتظرك في نهاية هذا الشارع، إن لم تأتي سأعرف أن كلّ شيء انتهى..
-وإن أتيت وأخبرتك بنفسي أن كل شيء انتهى؟
-لا تأتي إذن، لست بحاجة للكلمات لأدرك ما ترغب فيه، أنا بحاجة لحضورك فحسب..
رأيتها واقفة عند آخر شارع "فلسطين" متكئة على حائط مغازة لبيع الأحذية تدخن سجارة وتنظر إلى حذائها وقد بدى من عينيها أنها ليست مهتمة بشيء آخر سواه، ربما أرادت شراء حذاء جديد والعودة للمنزل من دون أن تعرف إن كان سيأتي أم لا.. هل كنت أنتظره حقا؟ أم أنني تخيلت ذلك للتو..
سليم هذا هو اسم النادل، يبدو مألوفا جدا، وكأنني ناديته مرة إلى أن جفّ حلقي واحمرت عينيّ.. وكما يحدث في أفلام هوليود أمطرت فجأة، نظرت بطلة الحكاية إلى السماء لبرهة وهي غير متأكدة من شعورها إزاء ذلك الحدث المفاجئ ثم عادت لشرودها، حين رفعت عينيها مرة أخرى لم يكن هناك أحد سوانا في الشارع، لا أظنّ أنها أبدت اهتماما لوجودي لأني رأيتها فجأة تركض نحو مقهى الدخان، أطلت من الباب العريض للمقهى التي كانت قبل ساعات مكتظة بالدخان والشفاه المرتعشة والسيقان الطويلة خالية تماما سوى من النادل الذي يخربش شيئا ما على الورقة، دفعت الباب بلطف وهمت بالدخول إلا أن صوته المفاجئ أوقفها:
- أسف سيدتي، لقد تأخر الوقت سوف نغلق بعد ثوان.. عودي لزيارتنا في وقت أبكر.

 

تعليق عبر الفيس بوك