السياسة والرواية.. لماذا هذا المسار؟!

 

عبد الله العليان

يجري الحديث كثيراً في الأوساط الفكرية والأدبية العربية منذ عدة عقود، عن قضية انتشار فن الرواية في الكثير من المجتمعات العربية على حساب الكثير من الفنون الأدبية، وخاصة الشعر ومجالات أدبية أخرى، التي كانت محل اهتمامات كبيرة في القرن العشرين وما قبلها.

وقد اتجه الكثيرون من السياسيين والأدباء والكتاب والباحثين إلى هذا الجانب، ومنهم أساتذة جامعات في العلوم السياسية وغيرها من التخصصات، وأصبحوا من الروائيين، بعيداً عن مجالاتهم السياسية والفكرية، وعلى حساب توجههم الفكري وتخصصهم الدراسي، وهذا الأمر انتشر كثيراً في دول بعينها، دون دول أخرى، وبغض النظر عن المقدرة الروائية عند هذا الاختيار في من اتجه لهذا النوع من المجال الأدبي. إلا أنّ ظاهرة الرواية طغت كثيراً على الكثير من مجالات الكتابة، وتجد أنّ الرواية تلاقي إقبالاً كبيراً في معارض الكتاب بصورة لافتة، وهذه أصبحت ظاهرة للكثير من المتابعين، فهل هناك أسباب بعينها جعلت هؤلاء يتجهون للرواية؟

أتذكر منذ عدة سنوات في أحد المؤتمرات في دولة عربية شقيقة، التقيت أحد الأكاديميين في العلوم السياسية وأحد كتاب المقال البارزين، ومع أنني التقيته لأول مرة، لكنني كنت من المتابعين له سواء في كتاباته السياسية في الصحف العربية المهاجرة، أو في مؤلفاته وأبحاثه المتناثرة في العديد من المجلات المتخصصة في الجانب الفكري والسياسي، وكانت تلك الفترة بدأت تحولاته إلى عالم الرواية، فدار في ذهني سؤاله عن سبب هذا التحول، فقلت له: "لماذا الرواية، وأنت كاتب سياسي بامتياز، وفكرياً كنت منذ الشباب وأنت مصقول بالسياسة وتحولاتها وآلامها؟"، قال لي: "لا شك أنّ هذا التحول له أسبابه المقبولة والمعقولة، فالذي لا نستطيع كتابته في المقال أو الدراسة، نكتبه في الرواية، مع التغيّرات في الأسماء والأماكن والشخصيات".

فقضية مساحة الحرية للتعبير عن أي قضية من القضايا، تجعل الكاتب يتخير المجال للتعبير، عندما يجد أنّ الخطوط الحمراء مسدودة أمامه للكتابة، ولذلك تجد البلدان التي فيها مساحة الحرية محدودة أنّها أكثر الدول فيها تتجه لكتابة الرواية وتكون أكثر حراكاً ونشاطاً من الجنسين، وهذه وسيلة للبوح فيها كثيرة أوسع بكثير، وأحياناً يتم البوح بصورة قد يتم قبولها فكرياً وقد لا يتم، لكن كما يقول المثل الشهير"الصراخ على قدر الألم"! ولا شك أن الحرية والمسؤولية قضية القضايا في الفكر الإنساني، ومن وعندما تفتح الأبواب بالقدر المقبول الذي تتيحه الحق المشروع للتعبير فإنّها تتحرك دون أن تكون طاغية على فنون أخرى، ومسألة الرواية وسيلة مهمة للتعبير، بل وأصبحت - لدى البعض- من الوسائل لجلب المال والشهرة، بحكم الإقبال الكبير على الروايات، ومن هنا نجد الكثير من دور النشر، تسعى بشكل حثيث على الروائيين المشهورين وحتى من غير المشهورين، لنشر رواياتهم، وأنّ الحديث الآن أكثر رواجاً عن تراجع الشعر، وبروز الرواية بشكل لافت، وهذا بلا شك لا يمكن نكرانه، والسبب أنّ غياب مساحة النقد، يتم الهروب للرواية للتعبير كأحد المجالات المتاحة.

فبعد هزيمة يونيو 1967، وقد سُميت بالنكسة، عمد الروائي الشهير نجيب محفوظ إلى نقد الأوضاع السياسية في مصر الناصرية، خصوصاً القيادات الممسكة بالمؤسسة العسكرية، وببعض القرارات السياسية، التي سارت عليها الثورة، وخاصة قضية تأميم الصحافة وتراجع الحريات العامة، وألّف رواية "ثرثرة على النيل" والتي أحدثت ضجة كبيرة في مصر آنذاك، بعد صدورها، وقبل الصدور وافق الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل على نشرها في الأهرام على حلقات، بعد موافقة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، على الرغم من بعض النقد على النظام السياسي.

والكاتب الصحفي المعروف إحسان عبد القدوس، صحفي من الطراز الأول، وابن فاطمة اليوسف، مؤسسة مجلة روز اليوسف المصرية، وعندما أممت الصحف بعد القرارات الاشتراكية في أوائل الستينيات، تحولت ملكيتها للدولة، اتجه عبدالقدوس الليبرالي المعروف للرواية بصورة أكبر، ومن خلالها كتب الكثير من الروايات المُغلفة بالنقد، تحت مسميات ووقائع متعددة هروباً من الوضوح، ومن الروايات التي انتقدت التطبيقات الاشتراكية في المرحلة الناصرية، رواية "لا شيء يهم" وقد تحولت إلى فيلم في الستينيات، كما أصدر إحسان رواية "يا عزيزي كلنا لصوص"، وكانت تنتقد الفساد وغياب النزاهة في فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات، بعد الانفتاح الاقتصادي أو الاستهلاكي كما يسميه البعض، وتقليص القطاع العام.

ولذلك قضيّة الرواية تعد مخرجاً للكثير من الأفكار كرؤية أخرى للتعبير، عندما لا يجد البعض باباً آخر للتنفيس.. والإشكالية أننا كما يقول د. زكي نجيب محمود "ألفنا جميعاً ألا نفهم من حرية الإنسان إلا الجانب السلبي وحده، دون جانبها الإيجابي الذي بفضله تبنى الحضارات وتقام الثقافات، وجانبها السلبي هو المرحلة الأولى التي تفك فيها القيود، ويصبح الإنسان بعد ذلك "حرا" في أن ينطلق إلى حيث شاء، وها هنا يأتي الجانب الإيجابي من الحرية، فإلى أين ينطلق، وكيف ينطلق، وعند هذه النقطة تأتي أهمية المعرفة بطبائع الأشياء".

وفي غياب مساحة الحرية المقبولة، والنقد النزيه العادل، تتقدم الكثير من الوسائل التي يهرب في غيابها، وفي غيابها يتم الكذب والنفاق، والتحلّي بالمسؤولية غير المنضبطة، وربما يبرز الغلو والتطرف، لذلك، فتح الباب للنقد. وفتح النوافذ الصحية للنقد الحصيف، هو الذي يقصي الكثير من الظواهر السلبية، التي اجتاحت الكثير من المجتمعات، لذلك أصبحت الرواية عند البعض، البديل التي يتحرك فيها بعض الروائيين عندما تقل مساحة النقد في الأبواب المفتوحة.