شعرية الزمن، من "مجمرة الشعر" إلى "صناعة الوقائع":

قراءة في مجموعة (التفعيلة الأخيرة) للشاعر سعيد الزبيدي

عباس أمير | ناقد من العراق
  لا يخفى أن عتبات النص وهوامشه التي يُذيّل بها، بضمنها عتبات الوسوم/العناوين والهوامش التاريخية، تشكّل بالنسبة إلى متلقي النص مستندات نصيّة ومفاتيح دلالية، يحرص على دمجها بالنص بعدّها نصّا موازيا، يستعين به، وهو يجهد في  الكشف عمّا خفي من المثابات التأويلية  الكامنة في المتن الشعري.
 وعلى الطرف الآخر، يشكّل عنوان النص مدخلا  تنويريا مهما، وشِرعة أولى تصل بنا إلى مسيل النص الكائن بين ضفّتي المعنى. وهو هنا (التفعيلة الأخيرة) بشقّيها؛ الموصوف والصفة. حيث يبدو العنوان الذي صيغ بعناية سهلا ممتنعا، وكاشفا أصيلا عن مضمر الشاعر ووجعه، فضلا عن ميله النفسي  وقلقه الوجودي، خاصة وهو يسم جنبة العنوان الأولى؛ (التفعيلة) بوسم (الأخيرة)، بكل ما لهذا الوسم من دلالات زمانية قلقة.
 وبلحاظ ذلك كلّه، وباستدعاء ما يذهب إليه علم العروض، تبدو إمكانات المعنى الشعري جليّة وهي (تصنع واقعته) الشعرية في (التفعيلة الأخيرة) ما بين (العروض) و (الضرب). فـ(التفعيلة الأخيرة/ العنوان، وبمقاربة عروضية، هي التفعيلة الأخيرة من الشطر الأول، وهي الأخيرة من الشطر الثاني، وما بين هذه وتلك (حشو) البيت الشعري. ولعل العلاقة بين متن (التفعيلة الأخيرة) وعتباتها، بما في ذلك تواريخ نصوصها التي تنجدل في فضائها، وحواليها، هي العلاقة عينها التي بين عروض التفعيلة وضربها.
 والذي يجري على عَرُوض الشعر وفواصل أنصافه من جهة، والضّرب من بيت الشعر الذي هو آخره، من جهة ثانية، تغيير  يطرأ على الأسباب والأوتاد، فيلزم غالبا، وقد يجري مجرى الزحاف في عدم التزامه. وبمقاربة هذه الحقيقة إجرائيا، يبدو أن الذي يطرأ على (التفعيلة الأخيرة) يطرأ على الشاعر، وأن الذي ما بين العروض والضرب، عينه ما بين أول الشاعر وآخره. وهنا تصير (التفعيلة الأخيرة) معادلا موضوعيا لمعنى آخر، يدعونا إلى تأويله، لينسجم ما بين المعنى والمعنى، ولكن على الوفق الذي ينسجم فيه الضرب في فضاء العروض. فتفعيلة العروض هي التي تحدد البنية الإيقاعية للبحر، في علم العروض، وعليها تُعرَض تفعيلاته. أما تفعيلة الضرب، فعليها المعوّل في تحديد القافية. وبمقاربة عروضية، تبدو (التفعيلة الأخيرة) بجنبتين، الأولى منهما، القوام النفسي والعاطفي لتلك (المجمرة الشعرية) أما الثانية فتقفو الأولى وتتبّع أثرها وتنحو بالشاعر منحاتها، لعلّها بذلك تستعيد ألق أحلامها، ولكن..!.
  ولو تتبّعنا التواريخ التي ذُيّلت بها نصوص المجموعة، استجابة لما سبق، للحظنا أنها يتوزّعها تسع سنين، تبدأ بسنة 1988، هامشا للنص الأول ثم تغيب السنون، من 1989 إلى 2002، ويُذيّل النص الثاني بسنة 2003، ثم تغيب سنون ثلاث، ليُذيّل النص الثالث بسنة  2007، مرورا بـ  2008، و 2009، و 2010، و 2011، و 2012، وانتهاء بسنة 2013 التي ذُيّلت، هامشا للنص الأخير. وهنا تجيء سنة 2009 وسطا بين جنبتين، وهي تنضوي على خمسة نصوص، يحتل نص (قنطرة) موضع القلادة فيها. فهو ختام ما سبق، ومفتتح ما استقبل أو، بتعبير آخر، هو مؤخّر الشطر الأول من شطري الزمن النفسي للشاعر الذي تتبّع مسيله المجموعة كلّها، وهو مقدّم شطرها الثاني، ولعلّهُ عروضها العاطفي الذي يفضي إلى ضربها..!
 ولكي نعرض ما بين تينك الجنبتين على (مجمرة الشعر) وتفعيلة الشاعر، لا بد من (قنطرة) تمتد من  الحلة يوم 2/4/8 198 ، وبوابتها التأويلية المتمثلة ب (كنتُ الحجابَ على الحجاب)، إلى مدخل نزوى يوم 22/5/2009 ، الموسوم بـ(قنطرة) ... وبتمام القنطرة الكائنة بين الحلّة ونزوى، في الصفحة الخامسة والأربعين من المجموعة، تتشكّل البنية التأويلية المكوّنة  للمعنى، وهي ذاتها، الجنبة الأولى لـ(التفعيلة الأخيرة). أما البنية التابعة التي تمثّل الجنبة الثانية للمعنى  و تفعيلته الأخيرة، فهي الجنبة التي تبدأ بـ(أحلام مؤجّلة) في (بركة الموز) يوم 2/6/2009 وتنتهي بـ (علّمتني) في بركة الموز نفسها، ولكن يوم 19/ 2/ 2013، حيث تغيب الحلة  وتشرع التفعيلة الأخيرة بإيقاعها الجديد في بركة الموز يوم 2/6/2009، وبعنوان يتلمّس لحظة العبور الآمن إلى المستقبل، ولكن دونما جدوى، عنوان وسمه الشاعر بـ (أحلام مؤجلة)، يفضي من خلاله الشاعر بالمتلقي إلى الدخول إلى نصوص؛ (خيبات السنين) و (ظلال المنفى) و (الذكرى الصدئة).. وهكذا، وصولا إلى النص الأخير، في بركة الموز نفسها، ولكن بعد أن نسج منها الشاعر حلمه الذي تظهر فيه الحلّة ثانية، ولكن من خلال شاخصها، الذي مثّل للشاعر في اغترابه، الأهل والوطن، وهو النص الذي أهداه الشاعر إلى ابن الحلّة، الدكتور عدنان العواديّ، حيث تبدو النسيجة الشعرية وهي تخلص إلى آخر سطر فيها؛ (... دعني فخير لنا أن نلبس الكفنا)، متناصّة  سيميائيا  ونفسيا، مع آخر النسيجة الأولى، نسيجة الحلّة التي تشكّل عتبة النصّ، التي يقول فيها ؛ (... كنتُ الحجابَ على الحجاب). وبقبْض هذه إلى تلك وضمّ الأخيرة إلى الأولى، تبدو لنا عروض التفعيلة الأخيرة ناظمة لضربها النفسي وضابطة لدلالته الزمنية.
 إن وصف (التفعيلة) بأنها (الأخيرة) يكشف عما هو مقدّم على سواه، من صفات تلك التفعيلة التي تشكّل معادلا موضوعيا حادّا للشاعر، وبما يعضّد فكرة أن فاعلا بعينه سيبقى مؤثرا في مكوّنات النص/ الشاعر، بعدّهما؛ المكوّنات والشاعر فاعلَيْن، ألا وهو الزمن، بكل ما له من أثر كامن في وعي الشاعر، وهو ما يكشف عن مضمرات النص التي تومض بها وسُومه. ذلك أن قراءة متأنية لوُسوم المجموعة تكشف، من طريق الإحصاء، عن هيمنة الدلالة الزمانية على تلك العتبات النصية، بدءا من وسم العنوان الرئيس للمجموعة بميسم (الأخيرة) ذي الدلالة الزمانية، مرورا بـ (كنتُ الحجاب على الحجاب) و (الساعات الثلاث) و (ساعة أخرى) و (مرّ عام)     و (زينة الأيام) و (عامان) و (إلى عام 2012 م مع الوجل) و ( ذكرى باقية) و (كنت منتظرا معينا) و (أخا الأمس) و (أيصدأ الزمن)، وانتهاء بـ (رسالة إلى العام الجديد 2013م)، ما يعني أهمية  النظر إلى المعنى الشعري الذي تفرضه المجموعة بلحاظ التجربة الفردية للشاعر وهو يتحسّس الزمن الذي تمكّث  في المكان/الغربة كثيرا، ولكنه، لم يستأنِ بالشاعر، بل أعجله إلى (السبعين) التي تشكّل مرتكز نص (التفعيلة الأخيرة).
 إن مفارقة الإيقاع في هذا الزمن الذي يرسم لنا  النص (تمطّيّـه بصُلْبه)، كما يقول امرؤ القيس، تكمن في أنه زمن مرجعيّ يستند إلى الذاكرة الحيّة للشاعر، وليس أدلّ على ذلك، من ابتداء نصوص المجموعة بنص (كنت الحجابَ على الحجاب) الذي أرّخ له الشاعر بـسنة 1988، على الرغم من أن هذه المجموعة هي المجموعة الشعرية السادسة للشاعر، وأنها ينسدل عنوانها على نصوص كُتبت بين 2003 و2013، ما يعني أن المعنى الشعري للمجموعة نتاج زمنين ، لكل منهما تجربته الفريدة. ولكنهما وهما الباديان على المكان المواريان له، وقد تجلّى الإحساس بهما ضمن فضاء المجموعة، ممثلا بمعجمها الشعري، وصورها، وبحورها، ووسوم نصوصها، وهوامشها.. الخ، مختلفان في المقدار الذي لكل منهما في تشكيل ذلك المعنى الشعري الذي يجيء ثمرة لجدل الفضاء النصيّ الكائن بين الزمن والشاعر.
(زارتني التفعيلة خجلى،
                         في عينيها ألفُ سؤالْ:
أَغبارٌ من سَفَرِ  الغربةِ قد رانَ على الفاحمِ منك؟
أم أثرُ (الطبشورِ)، وأدري
                           قد ولّى زمنُ (الطبشورْ)!
(....................)
ما يشغلُني فيك فتورْ،
                    وانطفأتْ منك الكلماتْ،
كانتْ تطفرُ إمّا جئتُ، وتوشكُ والآهاتِ تفورْ
كانتْ.. لم تكملْ جملتَها،
                   نفختْ- عَبَثاً- موقدَ عمري
                   كي تُذكيَ جمرَتَهُ لكنْ
                                       لم تلقَ ولا بعضَ رمادْ !
هل تدري،
والشوط اللاهثُ يُدلفُ بي نحو السبعين؟!
هل ذاقتْ طعمَ السبعين؟ )

 إن سيميائية البوح السبعيني الكامنة خلف (التفعيلة الأخيرة)، وإيقاعها المنضبط بتسارع الوحدات الزمنية التي تتجلّى من خلال بحر المتدارك، سرعان ما تتكشّف، حينما نغامر بالانتظام على وفق النسق الدلالي لتلك التفعيلة الحافلة بتشكّلاتها الفنية والنفسية، فإذا كان لنا ذلك تجلّت لنا هذه التفعيلة؛ (قنطرةً)؛
 (تتعمّد (اللحن) الذي ما كنتُ أسمحُ فيه حتّى تستعيدَ المقطعا !
في أيّ (تفصيلٍ) جرتْ فيه القصيدةُ حاضره !
في أيّما (تفعيلةٍ) أو (خاطره) ! )
إن وقوف الشاعر على قنطرة فاصلة بين زمانين ومكانين ليس وقوف المترف المُريد، بل وقوف المضطرّ المقهور بجريان الزمان تحت القنطرة، وها هو، إذ يقف، فإنه يقف متوفّزا بين زمانين، زمان يستذكره، وهو الأول، زمان من (لو يسطيعه، كان الحجابَ على الحجاب)، وزمان؛
أعدْ ليَ الأمس ما تختار من صوَرٍ        زاداً لأدرأَ عن ساحاتنا الفتنا
أو، لا، فقلْ لي بما قد شئتَ معتذراً        دعني فخيرٌ لنا أن نلبَس الكفنا

 وهكذا، تبدو التفعيلة/ الشاعر/ المرأة/ الوطن/ الصديق/ العمر/ الولد..الخ، بين عروضها وضربها، أما عروضها فتأسيس حلُميّ لضربها، وأما ضربها فمكرور حلمها، والدليل على غربتها واغترابها، فهي الأخيرة التي تشرق عليها شمس وعدت الشاعر بغدٍ يحقّق في الذات انعتاقها، وهي الأخيرة التي تشهد، على قنطرة السبعين، أن الأحلام مؤجلة، وأن الحزن والألم والغربة هي الأدوات الوحيدة التي يكتب بها الشاعر قصيدته خارج الوطن، الوطن المكان والزمان والحلم، الذي يصنع وقائعه في مجمرة الشعر جريحا مرة، والذي يتحسّسه طفلا شاخصا في أبنائه وأحفاده مرة أخرى.

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك