معجم الدوحة التاريخي.. رُبّ هِمّة أحيْت أمّة

محمد علي العوض

في القرن الثاني الهجري وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي "كتاب العين" أول معجم لألفاظ اللغة العربية، وعنونه بذلك من باب تسمية الكل بالجزء، ثم حذا حذوه في هذه الصناعة الجديدة عدد من العلماء الذين أغنوا المكتبة العربية بتآليفهم اللغوية المعجمية؛ ومن بين تلك المؤلفات سفرٌ لا يقل أهميّة وغزارة من حيث المادة العلميّة عن معجم الفراهيدي، وهو كتاب "لسان العرب" لابن منظور الأنصاري، أشهر المعاجم العربية بلا مُنازع؛ لضخامة مادته واشتماله على مجموعة كبيرة من الشواهد المأخوذة من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وأمثال العرب وأشعارهم؛ حتى قال عنه الزركلي أنّ ابن منظور جمع في "لسان العرب" أمهات كتب اللغة؛ فكاد يغني عنها جميعا.

وثمة معاجم أخرى كانت لها من الذيوع والمكانة كـ "أساس البلاغة" للزَمخشريّ، و"المُحكم" لابن سيده، وغيرها من أنواع المعاجم الأخرى كمعاجم المعاني ومعاجم المُصطلحات، والمُعجم العسكري المُوحّد للجامعة العربيّة، ومعاجم الأمثال، ومعاجم مفردات وفهرس القرآن وغيرها؛ ولكن على الرغم من ضخامة هذا التراث المعجمي الذي خلّفه علماء الضاد إلا أنّهم لم يصنعوا في الماضي معجمًا تاريخيا للغة العربية أسوة بغيرها من اللغات الأخرى، كمعجم "أكسفورد" في الإنجليزية، ومعجم "روبير" التاريخي للغة الفرنسية.

بالطبع هذا لا يعني أنّه لم تجرِ محاولات سابقة لبناء معجم تاريخي للعربية فقد جرت محاولات سابقة عدة منها محاولة المستشرق الألماني أوغست فيشر عام 1907، ومحاولة الجمعية الألمانية للاستشراق عام 1957، ومحاولة جمعية المعجمية العربية في تونس عام 1990 ثم محاولة هيئة المعجم التاريخي في القاهرة عام 2004 إلا أنّها للأسف توقفت كلّها ربما لأسباب فنية أو مادية.

الآن؛ أصبح الحلم بوجود معجم تاريخي للغة العربية حقيقةً وواقعا معاشا، فقد دشّن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في العاصمة القطرية، مؤخرا، البوابة الإلكترونية لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وشارك في جمعه قرابة 300 من أساتذة الجامعات والخبراء والعلماء في عدد من الدول العربية، حيث لم يعد مقبولا أن تظل العربية دون معجم يوثق لألفاظها ودلالاتها والتحولات التي طرأت عليها طوال حياتها؛ وهي اللغة التي ندر أن تجد لغة تضاهيها من حيث الامتداد الزماني والحضاري والجغرافي؛ فهي اللغة الأطول عمرا والأوسع مساحة والأغنى تراثاً، والتي وصفها أحد المستشرقين كما جاء في كتاب "المعجم التاريخي" لمحمد عبد العزيز بأنّها "لغة متميزة، عاشت خمسة عشر قرنا لم تتغير في أثنائها تغيّرًا جوهريا، إنّها غالبا ما تكسب ولم تخسر البتة.. إنّها كفينوس ولدت وافية الجمال، واحتفظت بهذا الجمال على الرغم مما أصابها بمرور الأيام، لقد استطاعت أن تُعبّر عن الشيء وما يقابله، عُرفت بالبساطة البالغة والتعقيد الشديد.. بالوجدان الصوفي وبالانغماس في الدنيوية، بالتوقد والانطفاء، لقد امتلأت حيوية في عصور بهائها وواصلت طريقها في عصور محنتها في حالة أشبه بالبيات الشتوي، ولكنّها حين نهضت من رقادها بدت كما كانت من قبل قويّة، فتيّة. قد يقال إنّ وراء ذلك عوامل دينية واجتماعية وهذا صحيح؛ لكن قدرتها على الانتشار واحتفاظها بخصائصها وبحيوتها وبكمالها راجع إلى بنيتها ذاتها؛ وهذا ما يُميّزها على غيرها من اللغات الأخرى".

مجهودات أمير قطر سمو الشيخ تميم كانت حجر الزاوية في أن يرى هذا الإنجاز اللغوي النور؛ ففي العام 2011 طرح نفر من الأساتذة الجامعيين على رأسهم عزمي بشارة مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة على سمو الشيخ تميم ولي عهد قطر آنذاك مشروع معجم تاريخي للغة العربية، والذي بدوره أبدى حماسًا منقطع النظير للمشروع لما له من موجبات علمية وقومية وحضارية، وباعتباره ذاكرة أمّة يحتاج حاضنة مثالية توفر له أسباب التذليل والتقعيد حتى يرفد المعجمية العربية بما يرسخ لهذه اللغة وينهض بها من جديد.

يختلف المعجم التاريخي عن المعاجم العربية العامة بتضمّنه ذاكرة لكلّ لفظ من ألفاظ اللغة العربيّة، يسجّل فيها تاريخ استعمال اللفظ بدلالته الأولى، وتاريخ تحوّلاته البنيويّة والدلاليّة والتاريخية، مع توثيق تلك الذاكرة بنصوص وشواهد وأمثلة تشهد على صحّة المعلومات الواردة فيها. كما يقدم لكلّ لفظ من ألفاظ اللغة العربيّة مدخلًا معجميًّا، يتضمّن المعلومات عن الجذر اللغوي، وأقدم استعمال للفظ المنتمي إلى الجذر مُستخلَصًا من النقوش والمصادر القديمة، مع تحديد معناه، وتاريخه، والشاهد الّذي ورد فيه، ومستعمله، ومصادره، ومعاني اللفظ مرتّبة تاريخيًّا، حسب ظهورها في النصوص الموثّقة، مع تعريفاتها اللغويّة والاصطلاحيّة، بجانب التأثيل؛ أي تأصيل اللفظ -كما يسميه البعض- والذي يُعنى بالبحث عن أصل اللفظة، ومن أين جاءت؟ وهل هي من داخل اللغة المدروسة أم من خارجها؟ بجانب تتبّع تطوّر اللفظ أو المعنى عبر التاريخ؛ فهناك ألفاظ في العربية يجب ردها إلى أصولها اللاتينيّة، أو اليونانيّة، أو المصريّة القديمة أو اللغات الساميّة الأخرى كالعبريّة والفينيقيّة والأكّاديّة والسريانيّة وغيرها.

أيضا يختلف المعجم التاريخي عن أنواع المعاجم الأخرى من عدة وجوه: أولها "زمانية اللفظ" فالمادة -أي اللفظ- في المعجم التاريخي تتميز بأنّها ذات شقين "تزامني/تعاقبي" والتزامنية بحسب اللغوي "دي سوسير" تعنى بدراسة اللغة في زمن محدد سواء كان حالياً أم سابقًا بغض النظر عن تطورها؛ أمّا التعاقبية فتدرس اللغة من خلال التغيّرات التي طرأت عليها وتطورها من حقبة لأخرى.

وثانيها أنّ المعجم التاريخي على أساس تصنيفه هو معجم "لغوي/ موسوعي" ولغوي هنا تعني المعرفة اللغوية المحصورة فقط على الكلمة ومعناها المخصص والاكتفاء فقط بالكفاية اللسانية أي الدال "الصوت" والمدلول "المعنى" فمثلا كلمة "سور" في المعاجم العامة سنجد معناها "حائط المدينة" أو "جدار مرتفع" مع إيراد مشتقات الكلمة المتفرعة منها مثل "سِوار" و"سَاوره الشك" و "سُورة" وبعض المعاني الأخرى. بينما في المعجم التاريخي سنجد بجانب معنى كلمة "سور" المعلومات الآتية: أنواع الأسوار، تطور بنائها، والمشهور منها، مواقعها الجغرافية وتاريخها، بجانب إيراد بعض الصور منها؛ وهذا ما عنينا به الجانب الموسوعي من المعجم والذي يتوجه إلى تحديد العناصر المعرفيّة المتعلقة باللفظ.

أيضًا من سمات اختلاف المعجم التاريخي عن المعجم العام أنّه يجمع ما بين العمومية التي تقدم اللغة العامة دون حصرها أو اختصاصها بميدان أو علم محدد، وبين الخاص الذي يتناول جانبا وحيدًا من اللغة مثل معجم غريب القرآن أو معجم الألفاظ المنقرضة أو معجم أصناف النخيل مثلا.

وستتم صناعة معجم الدوحة التاريخي للغة العربية على خمس مراحل؛ تستند المرحلة الأولى فيه على النصوص الواردة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الثاني، وهي حقبة تاريخيّة قلّ فيها التدوين، وحتّى الموجود منها فهو بدائيّ أو غير وافٍ؛ وبرغم ذلك سيتم في هذه المرحلة عرض أقدم نص عربي موثق، وستتضمن زهاء 100 ألف مدخل معجمي. أمّا المرحلة الثانية فستضم الفترة ما بين القرن الثالث الهجري إلى نهاية القرن الخامس. وتمتد المرحلة الثالثة ما بين بداية القرن السادس للهجرة إلى نهاية القرن الثامن. أمّا الرابعة فستضمن الفترة من القرن التاسع إلى نهاية القرن الحادي عشر للهجرة، وبالنسبة للمرحلة الخامسة فستمتد من بداية القرن الثاني عشر إلى عام 1421 للهجرة والموافق لعام 2000 ميلادية.