لماذا لا نحزن؟!

 

سيف بن سالم المعمري

 

تصبح علينا الأيام وتمسي علينا الليالي وتطوي معها صفحات من المشاهد الحياتية المتقلبة بحلوها ومرها، وفي كلاهما نحن بحاجة لنقف مع أنفسنا قليلا، ونحاسبها، وأن نحزن عليها متى ما كان الحزن وسيلة لتقويم إعوجاج الطريق الذي نطويه، ويطوينا إلى تلك اللحظة التي نصل فيها إلى مرحلة الوداع المحتوم. نعم .. هو الموت الذي لا يتجرأ الكثير منِّا الحديث عنه، ليقيننا بأنه سيسلب منها كل الملذات الدنيوية، وسيحرمنا من كرسي الوظيفة الذي نصول ونجول فيه، لكنه- أي الموت- رحلة أبدية لا مفر منها.

لقد خيم الحزن أمس الأول على كل من عرف ومن لم يعرف الطفلة ميسون الرواحية والتي ودعتنا إلى تلك الرحلة الأبدية بابتسامة الصابر المحتسب، المتوقدة بالإيمان المطلق بأنّ الله لا يؤخر أمرا إلا لخير، ولا يحرمك أمرا إلا لخير، ولا ينزل عليك البلاء إلا لخير، فلا تحزن .. رب الخير لا يأتي إلا بالخير، ولقد أشعل خبر وفاة الطفلة الشجاعة شبكات التواصل الاجتماعي وقنوات الإعلام المحلية في حادثة غير مسبوقة لما عرُف عن الرواحية -رحمها الله- من إرادتها القوية ومجابهتها لمرض السرطان التي انقض على براءة طفولتها، وفاضت روحها الطاهرة إلى بارئها؛ لتترك لنا منهجًا إنسانيًا، كلنا بحاجة لنتعلم من مدرستها الفتية-بعمرها الزمني- والناضجة بمفردات العطاء الإنساني. نعم .. قد نحزن للوداع الأخير لزهرة من زهور الجنة، فألم الموت لا يؤلم الأموات بقدر ذلك الألم الذي يحدثه في الأحياء، كم من الدروس المستفادة من تلك الروح الفتية التي ناضلت من أجل حياة أكثر سعادة وإشراقة وتسلحت بالإرادة والعزيمة المتجددة والابتسامة الصادقة التي عكست براءة طفولتها برغم يقينها أن الموت يلاحقها بسرعة.

ولكن .. لماذا لا نحزن على أنفسنا؟ نضيع أعمارنا، نضيع أوقاتنا، نضيع أموالنا، نضيع أوطاننا، نضيع مثلنا وأخلاقنا.. لماذا يجد بعضنا الحلاوة في تضييع الأمانة؟ لماذا يستحلي بعضنا الخيانة؟ وما أشد جسامتها إن جنب الوطن؟ لماذا نجد من بيننا من لا يطيب له المقام إلا إذا غدر، أو كذب، أو ظلم،....إلخ، لماذا لا نتناصح؟ لماذا لا نقوم سلوك بعضنا البعض؟ لماذا لا نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب؟ ولماذا لا نتعظ من الراحلين عنا؟ هل رحيل ميسون الرواحية سيغير في قاموس حياتنا شيئا؟

قبل عدة أيام فقدنا أحد العباد في مسجد حارتنا، عرف عنه مرابطته في المسجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وملازمته لحلقات الذكر حيثما عقدت في الولاية، وقد استوقفني ذلك الحزن الذي خيم على (الآسيوي) عامل المسجد، فاستفهمته فقال لي:" هذا الرجل منذ أن عرفني لا يطبخ طبقاً في بيته إلا كان لي نصيب منه، وكان يتكفل بقيمة علاجي، وعلاج أهلي مهما كانت المبالغ، وكان يحث وكيل المسجد على عدم تأخير راتبي، وكان يحث أهل المسجد على جمع الصدقات ويخصني بها... إلخ"، ترى ماذا نتعلم من ذلك نحن الأحياء؟ نحن نسمع عن المرضى وهم يرقدون في المستشفيات لأشهر، ولسنوات ولا نكلف أنفسنا ونحن الأصحاء لنذهب لعيادتهم ونشد من أزرهم، فلماذا لا نحزن على أنفسنا على تضييع تلك الفرص النبيلة؟ لماذا لا نعطف على الضعيف ونساعد المحتاج؟

نحصل على الوظيفة، ونتناسى غيرنا ممن لم يحصل عليها وينتظرها لسنوات، ثم نتجبر ولا نحسن التعامل مع مُراجعينا، ولا نقدم لهم الخدمة كما يجب، وكما حددتها رسالة المؤسسة، ثم نتصرف بأموال المؤسسة، وممكناتها البشرية وغير البشرية، وكأنها ملكنا الخاص، نقرب من نُريد، ونبعد من لا نريد، ونمنح الخدمة في وقت أقصر للقريب منِّا وجدانيا، وفي وقت أطول للبعيد منِّا، ونعتبر ذلك، فطنة ودهاء، ولأنه لن يطالنا الحساب ولا العقاب، ونحو ذلك..

لا أعلم يقينًا، لماذا لا نحزن عندما نرى من يأكلون أموال وحقوق الناس عدوانا وظلمًا؟ لماذا لا نحاول تغيير ذلك الواقع، ونحاول بكل السبل لإنكاره؟ لا أعلم لماذا يصفق الناس للمفلسين من الأخلاق والمرؤة والذين يضيعون مقدرات الوطن؟ رحلت عنَّا ميسون الرواحية وليتنا نرث عزيمتها وإصرارها على الحياة بروح متسلحة بالأمل، وليتنا لا نحزن إلا على أنفسنا قبل أن يُغيبنا الموت.