هل المال أضرَّ بالتعليم؟

حميد السعيدي

نُفكر دائما في مستقبل الوطن، ونحاول أنْ نصيغ العديد من التوقعات التي نطمح إليها، مُؤمِّلين في أنَّ هناك أملًا من أجل النهوض به ليُصبح بلداً منتجاً على مستوى العالم؛ لذا تظهر العديد من المصطلحات في حياتنا كالثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الاصطناعي، والتنمية المستدامة، وغيرها من المصطلحات التي تَعبُر بنا نحو حياة مختلفة؛ فمنهجية التغيير والتطوير هي فكر إنساني  وعملية مُتجددة باستمرار؛ لذا فالعالم يحاول أن يتغير من أجل أن يستفيد مما هو متاح لديه من موارد طبيعية وبشرية، وبالرغم من أنَّ هذه المصطلحات هي أحد عناصر مراحل التغيير، إلا أننا نحاول أن نتساءل: أين موقعنا منها؟ لذا نجد أننا نضع الخطط والإستراتيجيات باستمرار والتي تأخذ فترات طويلة من الزمن، وربما يتجاوز بعضها العشرين عاماً، فما هي النتائج؟

ربما نُحاول أن نستفيد من الواقع، لننطلق من بوابة المدرسة والجامعة نحو صناعة أجيال من الشباب يقع على عاتقهم بناء المستقبل الذي نُريد؛ لذا نجد أنَّ الوطن يستثمر في هذا القطاع، وينفق الأموال الضخمة في قطاع التعليم بشقيه العام والعالي؛ انطلاقا من أهمية بناء الإنسان ليصبح العنصر الفاعل في تحقيق التنمية المستدامة، ولكن عندما نُحاول أن نطلع على هذا القطاع، نجد أن المال قد أثرَّ فيه سلبيا، والمخرجات التي كُنا نضع آمالنا عليها لم تكن وفق الطموح ولا الغايات، فهل المال أفسد التعليم؟ أو أنه استُغِل بعيداً عن أهدافه؟

المنطق يرفُض ذلك، ويؤكد أن المال من أهم العناصر الداعمة والمساهمة في نجاح التعليم وتحقيق طموحات الوطن؛ فبدونه لن يكون هناك تجديد وتطوير في التعليم، وبدونه لن تكون هناك أبحاث ونظريات حديثة يبتكرُها العلم في سبيل تطوره؛ فالمال يُسهم في تحقيق أهداف التعليم وبناء الشباب الذي يمتلك المعارف والمهارات والقدرات العقلية التي تؤهله نحو الابتكار وبناء المعرفة وصناعة التقدم، ليحمل على عاتقه النهوض بالوطن، وتحقيق التنمية المستدامة والاستفادة من الموارد المتاحة بما يعود بالنفع على الوطن، ليقوده نحو التنافسية الاقتصادية وتحقيق النمو الاقتصادي، ليصبح الوطن مُسَاهِما في التقدم العالمي، ويخدم الإنسانية من خلال معالجة العديد من الإشكاليات التي يُواجهها في مختلف القطاعات، حينها نرفُض هذه الافتراض، ونقول إنَّ المال كان داعما للتعليم؛ فهذه أحلامُنا وهذه توقعاتنا، وهذه آمالنا وهذه طموحات الوطن، ولكن الواقع مختلف؛ سواء رضيتم أو رفضتم ذلك؛ فالمال قد أفسد التعليم، فكيف كان ذلك؟

نعم.. عندما يَسْعَى بعضُ المسؤولين في قطاع التعليم، والذين يقع على عاتقهم أكبر مهمة وهي بناء الإنسان، إلى تحقيق نجاحات غير حقيقية، وإيهام الوطن بأنهم حققوا الإنجازات؛ فالنتيجة أن هناك تلاعبا في النتائج والمعايير لا أكثر، ولو أن الأهداف تحققت والإنسان تم بناؤه وفق المعايير لكانت حياتنا مختلفة، وواقعنا نحو العالمية يتنافس مع الكبار، لكننا نحن عالة على النفط نستجدي منه حياتنا من أجل أن نستمر، وإذا اختفى ورحل سوف نعود لافتراش الأرض، فنحن لا نُنتج فكراً ولا نصنع واقعاً، ولا نقدم للعالم شيئًا.

فعندما يقوم بعض هؤلاء المسؤولين بالإيعاز إلى الموظفين للتنازل عن أهم المعايير من أجل تحقيق واقع غير حقيقي، فماذا نقدم نحن؟ عندما يَعْمد البعض في الجامعات والكليات الخاصة إلى التنازل عن السنة التأسيسية الأولى للطلاب، ورفع نسب النجاح، من خلال اجتياز جميع الطلاب وعدم مغادرة أحدهم، فهو يمثل لهم مصدر رزق سواء المال الذي يأتي من البعثات الداخلية الحكومية، أو من خلال المال الخاص الذي يُدفَع من جيب أسرة الطالب؛ لذا يَعبُر الطلاب جميع السنوات بنجاح، ولكن بدون معايير، فمن الذي يخسر من ذلك؟

إنَّ الواقع الذي حوَّل التعليم إلى قطاع يُديره رجالات المال والتجارة، أو رجالات مصلحتهم رضا المسؤولين، فهؤلاء لا يُمكن يقدموا مصلحة الوطن على تحقيق مصالحهم الخاصة، وإنما من أجل رفع نسبة الأرباح، وتحقيق الثروات المالية؛ لذا فإن المال هنا قد أفسد التعليم، وأخرج لنا مخرجات لا يقبلها سوق العمل، ولا تمتلك أدنى المهارات التي تُؤهلها نحو ريادة الأعمال، والقيام بدورها الوطني، إلى جانب مُخرجات اتكالية غير قادرة على الاعتماد على ذاتها، وتمتلك قيمًا سلبية تجاه التعليم والعمل، ولكن الأخطر من ذلك أنْ يتولَّى قيادة هذه المؤسسات التعليمية شخصيات تجارية أَصْدَر بحقها القضاء أحكامًا بالفساد وتقديم الرشوة.

إنَّ مستقبل الوطن وتحقيق التنمية المستدامة يقوم على بناء الإنسان القادر على القيام بواجباته الوطنية، وهذا البناء لن يتم دون أن يكون هناك تعليم عالي الجودة، قائم على مجموعة من المعايير والمقاييس التي تؤطَّر في ضوء المنتج النهائي من التعليم وهو الخريج، ولكن أن يتم التنازل عن هذه المعايير لتحقيق مصالح خاصة، فإن الخسارة كبيرة، والوطن لا يمكن أن تكون له مكانة في ظل التهاون في التعاطي مع هذه القضية؛ فالتعليم لا يُمكن أن يكون في يد رجال المال. وعلى المخططين لمستقبل هذا الوطن أن يَتداركوا ذلك، ويعملوا على إيجاد الحلول الناجعة التي تضع النقاط على الحروف، وتؤسِّس لمستقبل تعليمي فاعل من أجل الوطن.