صناعة الثروة

 

فوزي عمار

 

* كاتب ليبي

 

من أهم عوامل نجاح أي مشروع اقتصادي لدولة ما، نجاح مجموعة قراراتها الاقتصادية المؤسسة لهذا المشروع، فالقرار الاقتصادي في العالم الحديث يُبنى على معرفة علمية وإنتاج عقلي. ويتم اتخاذ القرار بناءً على معلومات هي عبارة عن محصلة لبيانات تمت معالجتها وفق أنظمة حاسوبية.

صنّاع القرار الاقتصادي في عالم اليوم، بالإضافة إلى امتلاكهم للرؤية، يحتاجون إلى جيش جرار من المتخصصين يضعون أمامهم كل المعطيات من معلومات ودراسات جدوى القرار وزمن اتخاذه والمكان المناسب. والسؤال المعرفي المؤسس لصناعة القرار يتم إنتاجه في العقل المعرفي للإنسان؛ حيث إن عقل الإنسان هو تداخل معقّد من عقل معرفي حسابي وعقل انفعالي وعقل شهواني كما جاء في تقسيمات سيغموند فرويد. واتخاذ القرارات على أساس انفعالي أو أيديولوجي وليس على أساس معرفي دقيق وصارم لا يحقق النتائج ويقود إلى خسائر.

فالقرار الذي لا يتحول إلى فعل ونتائج ليس بقرار؛ وإنما هو في أحسن حالاته نوايا حسنة. والسياسات معنية بالنتائج.

إنّ انتقال المجتمعات الحديثة من عصر بدائي رعوي زراعي إلى مجتمع صناعي، أدى إلى نمو العقل المعرفي لما للصناعة من دقة، وبدأ عندها تكوّن العقل الحسابي.

ومن الصناعة انتقل الإنسان إلى عصر الخدمات وتأسست اقتصاديات دول على الخدمات مثل التجارة والتعليم والصحة والسياحة وتطورت هذه القطاعات مع اكتشاف الحاسوب والانترنت والاتصالات، والآن يدخل العالم عصر البيولوجيا والاستنساخ مع الإبقاء على الاقتصاديات التقليدية الثلاثة السابقة، وعدم هدمها، بل البناء عليها وحديثا تحول الاقتصاد إلى اقتصاد المعرفة.

لقد دخلنا إلى حقبة جديدة كما يسميها عالم الاجتماع البريطاني المعروف انتونى جدينز" و"هي حقبة الحداثة المتأخرة أو المعاصرة وأهم صفات هذه الحقبة الارتباط القوى بين العلم والتكنولوجيا والتطور السريع الذي لا يمكن ضبطه أو التحكم فيه، والاعتماد الزائد على الخبرة الفنية للالتحاق بركب التطور في عالم اليوم". وعالم اليوم عالم التطورات الكبيرة والسريعة ولم يعد مفهوم الأكبر يقضي على الأصغر بل تحوّل إلى مفهوم الأسرع يغلب الأبطأ، وأصبح عالما لا يمهل بل يهمل كل من لا يتكلم لغة العصر. فالظروف التي يمر بها العالم اليوم من تكاثر الأزمات وتشعبها بحيث لم يعد الهروب منهجا قويما في معالجة الأزمات بل إن النقد الذاتي وكذلك النقد لجميع ما حولنا أضحى أمرا ضروريا، ومعالجة هذه المشاكل والأزمات لا تتم إلا وفق نسق جديد يقوم على رؤية أكثر أخلاقية وأكثر إنسانية مع حسن توظيف عامل المعرفة، والبحث في مداخل ومخارج الحقل الاقتصادي وبطريقة موضوعية. لقد اهتمت دولنا العربية بتوزيع الثروة ولم تهتم بصناعتها، فتوزيع الثروة طرح أيديولوجي بينما صناعة الثروة سؤال معرفي.                                                 

ولمعرفة اقتصاد أية دولة الآن ما علينا سوى النظر إلى مجموع المؤشرات، من بينها تلك التي تبين قوة العملة وقيمتها، مقابل العملات الأجنبية والناتج المحلي وقيمة المشاركة في الناتج العالمي ومستوى النمو ومستوى التضخم ونسبة البطالة والشفافية والتنافسية، بالإضافة إلى مقاييس الفساد، وحديثا مقياس أداء الأعمال "Doing Business" وغيرها من المؤشرات التي هي عبارة عن أرقام حسابية دقيقة لها دلالات علمية محددة.

الاقتصاد اليوم له تأثير اجتماعي وسياسي وأصبح يتداخل مع مفهوم الأمن القومي والسيادة للدول، فالفقر يقود للتهميش والعنف، والعنف يقود للجريمة والتطرف وغيرها من المظاهر الهدامة. ولم تعد الحلول الأمنية حلولا ناجعة لأمد بعيد.

وأصبح مفهوم السيادة الجديد هو مدى تأثيرك في الآخرين ومدى تأثرك بهم.  وأصبح الاعتراف الاهتمام بالقطاع الخاص هو الحل على أن يتم التركيز على التكامل مع القطاع العام، وعن طريق فتح المجال لمشروعات صغرى ومتوسطة وحتى كبيرة منتجة؛ تساهم في تحريك عجلة الاقتصاد وتتشابك وتتداخل مع المشروعات الاستراتيجية الكبرى تفاعليا وتعمل بمبدأ فكّر محليا وتصرّف عالميا، وبالتالي يتم استيعاب مخرجات التعليم في سوق العمل لتساهم في القضاء على البطالة (أم الكبائر)..

إنّ الشراكة بين القطاع العام والخاص، وفي وجود الشريك الأجنبي، تعتبر من أنضج السياسات. والاستثمار الأجنبي يجب أن يُنظر إليه كحل من الحلول، وخاصة مع الشريك المتخصص والذي يوفر تقنية ويوطد معرفة ويزيد من القيمة المضافة ويفعل التنمية المكانية، ويتبني نموذج شراكة PPP.  فعلى سبيل المثال مشروعات BOT تتيح للدولة فرصة الدفع مقابل المنتج بدل الدفع مقابل المعدات، مشروعات تشتري فيها الدولة الخدمة من القطاع الخاص، بدلا من استنزاف أموال الدولة في معدات تصدأ وننسى أن نخصص لها ميزانية للصيانة.

ومما لا شك فيه أنّ القطاع الخاص سيلعب دورا مهما، لأنه الوحيد القادر والمؤهل لما له من القدرة على التعامل مع المتغيرات في زمن إيقاعه سريع جدا، وكذلك هو الأكثر كفاءة من ناحية إطلاق المبادرات لردم الفجوة بين الواقع والمؤمل، ولكن تحت مظلة الدولة.

والمصارف أيضا مطالبة الآن وأكثر من أي وقت مضى بإصلاحات جذرية في الهندسة المالية الحالية. فالتمويل المالي هو أحد أهم المحاور الحاكمة لصناعة الثروة ولبعث اقتصاد قوي وفاعل كما يتطلب إفرازا وتدريبا مستمر لقيادات اقتصادية تمتلك الرؤية والمعرفة معا لتواكب العصر وتتحدى الصعاب.

تعليق عبر الفيس بوك