البشير.. رئيسًا حتى الرمق الأخير

 

 

محمد علي العوض

 

في عام 2015 وفي بادرة هي الأوّلى من نوعها دعا الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قادة وزعماء الدّول الإفريقية "المخضرمين" إلى التّنحي عن السّلطة بعد انتهاء ولايتهم، واحترام قواعد الديمقراطية وعدم تعريض بلدانهم للخطر، وقال بالحرف الواضح: "لا أحد يجب أن يبقى رئيسًا مدى الحياة"..

بالطبع قوبلت مقولة أوباما التي ألقاها من على منصة الجمعيّة العامّة للاتّحاد الإفريقي بموجة استياء عارمة من قبل "ديناصورات الحكم" في إفريقيا، وعدُّوها تدخلا سافرًا في الشؤون الداخلية لدول القارة، وجهلا بخصوصيّاتها.

ويتفق ذلك مع قول رجل الأعمال البريطاني السوداني محمد إبراهيم مو في معرض حديثه عن "كنكشة" الرؤساء الأفارقة وتشبثهم بمقاعد الحكم، حين قال: "إنّ هذه القارة للشباب؛ فنصف أعمار شعوبها دون العشرين عامًا؛ وبالنظر لمتوسط أعمار الرؤساء فإننا نجدها عند متوسط 63 – 64 سنة.. نحن القارة الوحيدة التي يبدأ فيها رؤساء في عمر التسعين ولايةً جديدة.. هل نحن مجانين؟ نرى رؤساء على كراسي متحركة ولا يستطيعون حتى التلويح بأيدهم ويقدمون على الترشح في الانتخابات. الأمر فعلا مضحك.. مؤكّد أنّ كل العالم سيضحك عند رؤيته هؤلاء. انظروا حولكم.. انظروا للولايات المتحدة الأمريكية بحجم اقتصاد يبلغ حوالي 15- 16 تريليون دولار في مقابل اقتصاد إفريقيا كلها البالغ أقل من ترليون دولار.. الولايات المتحدة هي الدولة الأهم في العالم سواء كرهناها أو أحببناها. الرئيس أوباما سعيد بنصفه الإفريقي وأصبح رئيسًا للولايات المتحدة وهو بعمر الـ 47. ولكن لنتساءل: لو كان أوباما في كينيا ماذا كان سيعمل الآن؟ ربما كان سائقا لحافلة؛ علما بأنّه ليس الرئيس الأصغر فكلنتون كان أصغر منه حين أصبح رئيسا في عمر الـ 46 وكيندي أصبح رئيسا أيضًا عندما بلغ الـ 43.. لماذا هذه الدولة التي هي أكبر منا بفرق شاسع تضع كل هذا الاقتصاد والأسلحة النووية وكل مواردها في يد أشخاص بعمر الأربعينيات ونحن نجلب أشخاصا بعمر التسعين ليقودونا؟ يقودوننا إلى أين؟ هل إلى المقابر؟".

حكام غينيا وأنغولا والكاميرون والجزائر والسودان الممسكون بصولجان السلطة منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي يقفون شواهد على حديثي أوباما و مو؛ فهل بإمكان الرئيس السوداني المتربع على سدة الحكم لقرابة الـ 30 عاما الخروج عن هذا التصنيف في العام 2020 أم أنه سيؤثر الانضمام للديناصورات الإفريقية؛ بعد أن شكل البرلمان السوداني لجنة لدراسة تعديلات دستورية تقدم بها 294 نائبا لرئيس البرلمان مطالبين فيها بتعديل المادة 57 من الدستور وجعل الفترة الرئاسية مفتوحة بلا نهاية.

البشير الذي سبق وأن ترشح بموجب الدستور نفسه لفترتين رئاستين في 2010 و 2015" وبرغم أنّه أعلن مرارا وعلى أكثر من منبر عدم نيته الترشح لانتخابات 2020 إلا أنّه لم يخرج معلقًا على مطالب البرلمانيين سواء بالرفض أو الإيجاب؛ فهل نكص عن تصريحاته السابقة أم أنّ السكوت علامة الرضا؟

لا أظن أنّنا سنجد وصفا ملائمًا لمطالب هؤلاء النواب أكثر مما عنون به منصور خالد كتابه "النخب السودانية وإدمان الفشل"، بإصرارها على إيقاع البلاد من وهدة لأخرى؛ في وقت يسعى فيه العالم أجمع لترسيخ مبدأ الديمقراطية واختيارها منهجا للحياة والحكم؛ بينما نحن في السودان نجهض آلياتها ونخرق الدستور ليتماهى مع مفهوم الراجل الواحد حتى لو كان هو الأزمة نفسه.

المنادون بالتعديل إمّا أنهم صم بكم عمي لا يفقهون، أو أنهم يتعامون عن روية الأزمات التي يعيشها السودان من افتقار للتعافي السياسي والاقتصادي بسبب حكم الحزب الأوحد وعدم تداول السلطة سلميا، أو أنهم يتصاممون عن سماع صوت الشارع المطحون؛ وبدلا من أن يكونوا "بطانة" صالحة تسدى النصح للحاكم الذي فشل في إيجاد حلول للأزمات السياسية والاقتصادية، ومطالبته بالترجل من صهوة الحكم؛ يزيدون الأمر ضِغْثا على إبَّالة، ويخرجون على الناس بـ "تطبيل" جديد ومداهنة ساذجة مفادها: البشير رئيسًا "مدى الحياة" تحت مبررات مكرورة واهية تصب في صالح الحزب الحاكم واستئثاره بالسلطة؛ كان آخرها أنّ البلاد تمر بمشاكل ومنعطفات تحتم ديمومة وبقاء رئيس الجمهورية، وأنّ التعديلين يجنبان السودان الانحدار نحو مستنقع الفتن والفوضى.

ترشيح البشير يكشف عن وهن الحزب الحاكم، ويشي بأنّ السحر انقلب على الساحر، فقد صدّق الحزب الحاكم كذبة فزاعة "عدم البديل" التي كان يخيف بها النّاس، وفَشِل على مدى 30 سنة في إيجاد بديل مناسب للبشير من حزبه.

لا مشاحة في تعديل الدستور؛ فكل دستور يحمل في طيّاته نصا يبيح ذلك وكيفيته؛ وتلجأ الدول لتعديل دساتيرها محاولةٍ منها للسعي نحو التشريع الأفضل، ولكن الأمر لا يتم جزافا بل بتوافر مسوغات قانونية ومتغيرات إقليمية فارضة - كانسلاخ بريطانيا عن الاتحاد الأوربي مثلا – وبالطبع تلك المسوغات السياسية والقانونية لا تنطبق على الحالة السودانية، فالخرطوم في المقام الأول قضيتها سياسية واقتصادية لا دستورية؛ كما يحاول الحزب الحاكم إيهامنا، فتوفير معاش الناس والخدمات هو الأولى بالجرح والتعديل لا الدستور الذي تصفه بعض أطياف المعارضة بأنّه من أفضل الدساتير السودانية لاعترافه بالتعدد واحتوائه على وثيقة الحقوق.

الخطوة إن صادق عليها البرلمان فستنعكس سلبًا على المشهد السياسي في البلاد؛ وربما تنسحب الأحزاب المشاركة في الحوار الوطني من حكومة الوفاق، وستصعد الأحزاب المعارضة والحركات المسلحة نبرتها وتحركاتها العدائية تجاه الحكومة؛ فعمليًا أطلقت بعض القوى السياسية المعارضة حملة ضد ترشح الرئيس البشير في انتخابات عام 2020 باسم "كفاكم" ووصفت الخطوة بأنّها تمثل انتهاكا لدستور البلاد ومُخالفة لنصوصه التي تنص على "عدم جواز الترشح لأكثر من دورتين للشخص الواحد". ولا يستبعد كذلك أن تضع هذه التعديلات البشير في مرمى نيران الثورة الشعبية في ظل الحوجة الماسة للتغيير، وديكتاتورية هدف التعديل، بجانب الفشل الملازم لحياة المواطن السوداني اليومية ومعاناته من البطالة والتضخم الذي بلغ أكثر من 68% بجانب معاناته في صفوف الوقود والخبز والبنوك التي تنعدم فيها السيولة.

الخوف الأكبر أن تعول المعارضة على الدور الخارجي وإدانة المجتمع الدولي لخرق الدستور السوداني بغية تنصيب البشير حاكمًا "مدى الحياة". فهذه الخطوة لن تأتي أكلها، فعربيا الحلف المضاد للربيع العربي يهمه بقاء البشير في السلطة ولن يجازف بتجريب المجهول أو أي قوى أخرى فما تعرفه خير مما لا تعرفه. أما واشنطن صاحبة البراغماتية القائمة على "الحلاب" و"الاستنزاف" فربما تتخذ خطوة تعديل الدستور ذريعة للضغط بشكل أكبر على النظام السوداني لتخفيض حربه ضد التنظيمات المسلحة والقبول بالتفاوض الجاد مع المتمردين في دارفور وجنوب كردفان، وستمسك العصا من منتصفها في عملية ترشح البشير "لا معه لا عليه" فالرجل استطاع في السنوات الأخيرة كسر عزلته ومد حبل الوصال مع المجتمع الدولي، كما أنه أظهر قدرة على التعاون في العديد من الملفات الإقليمية المعقدة كأزمة جنوب السودان ومكافحة الإرهاب والاتجار بالبشر، وبالتالي فإنّ هناك حاجة دولية لاستمراره في السلطة بغض النظر عن أدائه الداخلي أو سجل بلاده في حقوق الإنسان.

على الشعب أن يجابه وحده؛ فالحقيقة المؤكدة أنّ الرئيس البشير بعد 30 سنة في السلطة لم يمنح شعبه سببًا واحدًا لبقائه رئيسًا ولو لسنة واحدة؛ ناهيك عن تنصيبه إلى ما لانهاية أو حتى إشعار آخر يكتبه القدر..

لماذا إلى لا نهاية..؟ هل عقرت حواء السودانية رُغمًا عن أنف معدل خصوبة هو الأعلى بين الدول العربية؟.