السُّترات الصُّفر والعيون الحُمْر

غسان الشهابي

أثناء متابعة أحداث الاحتجاجات في فرنسا، لا يُمكن أن يخطئ المرء الانحياز الشعبي العالمي (وليس الشعبوي)، لأصحاب السترات الصُّفر، لأنهم يتظاهرون ضد الغلاء الحاصل، والغلاء المُقبل برفع ضريبة المحروقات، وانهيار القدرة الشرائية لشرائح واسعة من المجتمع حتى وُصف الرئيس الفرنسي ماكرون بأنه رئيس الأغنياء.

وكما يحدث في غالبية الحركات الاحتجاجية فإنها تبدأ بـ "انفجار" نتيجة طيلة التململ الشعبي من أوضاع سيئة لا يجري الالتفات إليها مبكراً وبشكل جاد، فيبدأ الحديث عنها وتناقل الشعور بالضيق بسببها، ولكنها لا تجد الآذان الصاغية والتحركات المتسابقة لإطفاء الحرائق، ويشعر الناس أنهم مهمّشون لا رأي لهم، فتنقدح الشرارة الأولى، وهنا تبدأ القصة المرئية.

عند اتخاذ القرار بالنزول إلى الشارع، يصعب الحل، بين الحكومة والمُحتجين (وليسوا المعارضة في فرنسا)، وتبدأ غقغقة "الصقور" في الحكومة تطغى على هديل "الحمائم". وما أن يسقط أول قتيل من المتظاهرين حتى تتعقد سبل الحل، ويصبح الوضع شائكاً جداً، ورجوع من هم في الشارع إلى بيوتهم أمراً صعباً لأنهم باتوا يحملون جثمان زميلهم معنوياً. وتتحول المطالب البسيطة، وربما الساذجة إلى قائمة مطالب، تتجاوز الخبز والغلاء متجهة إلى الضمان الاجتماعي، والتعليم، والصحة، والإسكان، و... تغيير الحكومة!

وكما في كلِّ مكان أيضاً، فإنِّه ما أن تستمر الاحتجاجات لمدة تتجاوز الأسبوع الواحد، وتبدو وكأنها متجهة إلى المزيد من القوة، وأن هناك التفاف شعبي حولها، وأنها تحظى بتفسيرات وتبريرات وتغطيات الفلاسفة والمفكرين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيين، وفي هذه الحالات ينبت "المحللون السياسيون"، كما الفَقْعُ، والفقع - كما يصفه صاحب "لسان العرب" - هو أردأ أنواع الكَمَأة (الفطر)، فهؤلاء الطارئون أيضاً من أردأ الأنواع التي تخرج مع كل أزمة... الجميع يمكنه أن يقتات على هذه الحركات، وهذا اقتيات مشروع ومُبرر.

أسوأ ما في هذه الحالات، أن عيوناً ترصد ما يجري على الساحة، فيغادر السياسيون والأحزاب مكاتبهم الدافئة، إذا ما رأوا أنَّ التعاطف الشعبي يصب في صالح حركات الاحتجاج، وأنها تتجه إلى تحقيق بعض المكاسب، والفوز ببعض المطالب، فيبدأون ركوب الموجة والاستفادة منها، والادّعاء أن شرارتها إنِّما خرجت من أروقة أحزابهم، ويبدأون في حصد مكاسب لم يُريقوا فيها نقطة عرق، واصطناع تاريخ، يتقدّمون الصفوف، ويظهرون فجأة وكأنهم آباء الحركة.

إنِّه التاريخ، إذ يموت الجنود ليعيش الجنرالات.

 

تعليق عبر الفيس بوك